الدمية الأخيرة
رواية قصيرة / فانتازيا نفسية
الفصل الخامس: ما بين النوم واليقظة
لم يعد الزمن يسير كما اعتاد. الساعات توقفت عن الطنين، والعقارب في الساعة الحائطية تلتفّ حول نفسها كدودة مذعورة.
حتى جسدي بدأ يفقد إحساسه بالتتابع؛ أستيقظ لأجدني في المكان نفسه الذي نمت فيه، لكن الأشياء من حولي تتحرك، تتبدل مواقعها، كأن البيت يغيّر ملامحه في غيابي.
أحيانًا أظنّ أني نمتُ أيامًا، وأحيانًا أكتشف أن الليل لم ينتهِ بعد.
كل شيء صار عالقًا في منطقة رمادية، لا هي يقظة ولا حلم.
الدمية لم تعد تناديني بصوتٍ مسموع. صارت تتحدث داخلي، بنبراتٍ تشبه أفكاري الخاصة.
حين أمسك الكوب، أسمعها تقول: احذر الماء الساخن.
حين أنظر إلى المرآة، تهمس: أنت تتغير... وجهك يلين كالخشب المبلول.
كنت أحاول أن أهرب من صوتها، لكن الهروب صار بلا معنى. البيت كله بات امتدادًا لها، أو لي، لم أعد متأكدًا.
حتى الجدران بدت كأنها مصنوعة من الخشب نفسه الذي نُحتت منه.
في إحدى الليالي، بينما أجلس قرب النافذة، سمعت من الخارج وقع خطواتٍ صغيرة. لم تكن بشرية، كانت أقرب إلى خشخشة الأقدام الخشبية على الأرض.
فتحت النافذة، فوجدت الفناء مغطى بطبقة من الرماد. لا أثر لأحد، فقط الريح تحمل شيئًا يشبه الهمس.
عدت إلى الداخل، ورأيتها هناك، تجلس على الطاولة كعادتها، لكنها هذه المرة كانت تبتسم لي بصفاءٍ غريب.
لم تكن تلك ابتسامة الخداع، بل ابتسامة الوداع.
ــ يوسف، هل تعرف ما هو الفقد الحقيقي؟
ــ أن تفقد من تحب؟
ــ لا. أن تبقى في منتصف الطريق بين الفقد واللقاء. أن تعيش وأنت مخلوق من ظلّين لا من جسدٍ واحد.
اقتربت منها.
الهواء حولها كان مشبعًا برائحة الزيت والمطر، وهي الرائحة نفسها التي كانت تفوح من جسد أمي حين تعمل.
قالت:
ــ لم أكن أريد لك أن ترى ما بعد الخشب. لكنك فتحت الباب.
ــ أي باب؟
ــ الباب الذي بين النَفَس والصمت. كل عائلة تحمل بابًا كهذا، لكن قلّة فقط من تجرؤ على فتحه.
جلست قبالتها، أحاول فهم كلماتها.
العالم الخارجي بدا بعيدًا جدًا، كأن المدينة كلها اختفت. لا أصوات سيارات، لا كلاب تنبح، لا بشر.
فقط البيت، وأنا، والدمية التي تتكلم بصوت أمي، وأحيانًا بصوتي أنا.
قالت:
ــ أتذكر حين كنت صغيرًا وسألتني عن الأرواح؟ قلت لك إن بعضها يختبئ في الأشياء كي لا يُنسى.
ــ أتذكّر.
ــ كنت أنت أحد تلك الأرواح يا يوسف. مرضك في طفولتك لم يكن حمى، بل نصف موت. وقد خبّأتك هنا، في الخشب، حتى لا تأخذك الظلال.
تجمدت الدماء في عروقي. لم أفهم.
ــ أنا؟
ــ نعم. أنت كنت دميتي الأولى، ثم صرت ابني. لهذا كنت أخشى أن تتركني، لأنك لو رحلت قبل أن أرحل، لانكسر الخشب.
كانت كلماتها تُقال ببطء، كأنها تُنحت في الهواء.
كل حرفٍ منها يُحدث صدى في أضلعي. شعرتُ أنني أتنفّس بصعوبة، كأن الهواء صار أثقل من العادة.
نظرت إلى يديّ، فرأيت أنهما اكتسبتا لونًا باهتًا، كأن الخشب بدأ يتسلل إلى جلدي.
صرخت:
ــ ماذا تفعلين بي؟
ــ لا شيء، يوسف. أنا أُعيدك إلى المكان الذي أنقذتُك منه. لا تقلق، لن يكون موتًا، بل عودة.
ــ لا أريد العودة!
ــ إذن يجب أن تُكمل الدائرة بنفسك.
عندها سمعت صوت الموقد في الزاوية يشتعل من تلقاء نفسه.
اللهب لم يكن أحمر بل أزرق باهت، كأن نارًا باردة تتنفس.
ــ النار مفتاح الحياة يا يوسف، كما الخشب بابها. حين يلتقيان، تُولد الأصوات التي لا تموت.
كنت أرتجف. البيت كله بدأ يصدر أنينًا عميقًا، مثل قوقعةٍ تهتزّ في بحرٍ مظلم.
حاولت النهوض، لكن الأرض بدت لزجة، كأنها تمسك بي.
سمعت في رأسي أصواتًا كثيرة: أمي وهي تضحك، أمي وهي تغني، أمي وهي تبكي.
كلها خرجت من تلك الدمية الصغيرة الجالسة أمام النار.
رفعت رأسي نحوها، وقلت بصوتٍ خافت:
ــ ماذا تريدين مني؟
ــ أن تختار. أن تعرف أيكفيك أن تبقى حيًا دون روح، أم تذوب لتصير لحنًا؟
لم أفهم، أو ربما فهمت ولم أجرؤ على التصديق.
اقتربت منها، وضعت يدي على رأسها، فاهتزّ البيت كله.
رأيت لحظة خاطفة فيها كل وجوهنا: وجهي ووجهها ووجه أمي، كلّها تتبدّل فوق الخشب، كأنها انعكاس واحد يتنقّل بين المرايا.
ثم ساد صمتٌ مطبق.
حين فتحت عينيّ، وجدت نفسي جالسًا على الأرض، والدمية في حجري. وجهها ساكن، لكن في عينيها لمعةٌ حية.
خارج البيت لم يكن شيء.
ولا داخله أيضًا.
كأن العالم كله انكمش في هذا الخشب الذي بين يديّ، وفي النفس المتردد بيني وبينها.
لم أعد أعرف إن كنت مستيقظًا أم نائمًا.
كل ما أدركته أني أصبحت جزءًا من أنين الخشب، وأن الصمت صار يتنفس من خلالي.
⬅️ [الفصل السابق](رابط الفصل السابق)
➡️ [الفصل التالي](رابط الفصل التالي)
📖 [العودة إلى الفهرس الكامل](رابط صفحة الفهرس)
[الدمية الأخيرة]، قصص طويلة، أدب سردي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق