السراد

في السَرَّاد، للحكاية بقية. تصفح أجمل القصص العربية والروايات المشوقة. منصة أدبية متميزة تجمع بين أصالة اللغة وروعة الخيال. تابع أحدث الإبداعات.

جديد الموقع

Post Top Ad

Your Ad Spot

الأحد، 2 نوفمبر 2025

أن تكون أنا

أن تكون أنا

قصة قصيرة بقلم جمال عسكر

تمهيد:


 

ليست كلّ امرأةٍ تركت بيتها خائنة، ولا كلّ من بقيت فيه مخلصة.

بين هذين الحدّين، تتأرجح وفاء — امرأة اكتشفت أن أكثر أنواع الأسر قسوة هو أن تُحبس داخل صورةٍ مثالية لا تشبهها.


في «صورة غير مكتملة» نعيش رحلة امرأة تخرج من الظلّ لتواجه انعكاسها في المرآة، بحثًا عن ذاتٍ ضاعت بين اللقب والمسؤولية.

قصة تنبض بالصراع الإنساني بين “النجاح الذي يصفق له العالم” و”الحب الذي يصمت حين نفتقده”.


هنا، لا نجد بطلة ولا مذنبة، بل إنسانة تحاول أن تتنفس خارج إطار الصورة.

وحين تصل إلى المرآة في النهاية... تكتشف أن الاكتمال الحقيقي يبدأ من الغياب.


 

القصة 

1. المرآة الأولى


قبل كل شيء، كانت المرآة.

في صباحٍ باكر، كانت وفاء تُمشّط شعرها أمامها بينما يربط رائد ربطة عنقه.

قال وهو يتفقد حقيبته:

– “كل شيء جاهز قبل السفر؟”

أومأت بابتسامةٍ باردة. في الزجاج رأت ملامحها بجانب ملامحه؛ هو مطمئنٌ لروتينه، وهي ترتبك أمام انعكاسٍ لم تعد تعرفه.

بعد أن خرج، بقيت تحدق في وجهها طويلاً. لم تكره حياتها، بل كرهت “الصورة” التي لا تشبهها.


ثم سقط صوتٌ صغير من الغرفة المجاورة:

– “مامااا!”

ركض آدم إليها وهو يحمل لعبته المكسورة.

– “صلحيها لي.”

أخذتها منه، لكن نظرها عاد إلى المرآة.

همست: “بعد قليل.”


كانت لا تدري أن ذلك “القليل” سيمتد لسنوات.


2. رائحة المكتب


حين سافر رائد، لم تبكِ. بل شعرت بشيء يشبه المساحة.

عملت سكرتيرة في شركة كبرى. في اليوم الأول، أسرها البريق الهادئ للمكان: القهوة، الزجاج، الهدوء البارد.

جاء صوت المدير عبر الجهاز الداخلي:

– “وفاء، الاجتماع بعد عشر دقائق.”

وضعت أحمر شفاهٍ خفيفًا، دخلت القاعة، تحدثت بثقة. لاحظ الجميع دقتها.


في المساء، اتصل بها رائد:

– “كيف الحال؟ آدم بخير؟”

– “نعم، وهو رسمك اليوم.”

ضحك وقال: “أشتاق له. حولت المبلغ كالعادة.”

ثم أضاف بحنانٍ عابر: “أنتِ أفضل من يُدير كل شيء، يا مدبّرة البيت.”

صمتت لحظة، ثم قالت: “اليوم أدرت اجتماع ثلاث إدارات.”

– “رائع يا وفاء، أنا فخور بكِ.”

لكن نبرة صوته كانت تائهة في ضجيج البناء.


حين أغلقت الخط، لم تسمع صدى كلماته، بل سمعت نفسها تفكر: “هو يبني بيتًا، وأنا أبني نفسي.”


3. تآكل الألوان


مرّت الأشهر، وصار البيت مجرد ممرّ للنوم.

آدم يجلس أمام التلفاز، وهي أمام شاشة الحاسوب.

ذات مساء، جلس الصغير بجوارها وقال:

– “ماما، المعلمة قالت نرسم بيتنا. بس ما عرفت أرسمك.”

التفتت نحوه، ترددت، ثم قالت:

– “ارسم قلبي يا آدم، أنا فيه دائمًا.”

ضحك بخجلٍ وذهب. لكن حين نظرت إلى الورقة لاحقًا، وجدت قلبًا كبيرًا بداخله رجلٌ وطفل، دون أمّ.


في تلك الليلة، جلست تكتب عرضها الجديد. من النافذة رأت الشارع خاليًا والمطر يطرق الزجاج. شعرت أن العالم يتحرك، وهي ثابتة في مكانٍ لا تعرف إن كان صعودًا أم سقوطًا.


4. المصعد الزجاجي


يوم العرض التقديمي كان مفصليًا.

قدّمت مشروعها بذكاءٍ وجرأة. صفق الحاضرون، وربت المدير على كتفها قائلاً: “من اليوم، أنتِ مسؤولة المشروع الجديد.”

حين خرجت من القاعة، دخلت المصعد الزجاجي، والمدينة تمتد تحتها أضواءً متشابكة.

أغمضت عينيها، كأنها تشم رائحة الحرية.


لكن حين فتحت الباب في شقتها ليلاً، اصطدمت بالواقع: ألعابٌ مبعثرة، حليبٌ مسكوب، وصوت التلفاز الخافت.

آدم نائم على الأريكة، وفي يده سيارة مكسورة.


جلست بجانبه، لمسته برفق، ثم اتصلت برائد.

– “وفاء؟ الساعة متأخرة، كل شيء بخير؟”

قالت بنبرةٍ ثابتة:

– “لا، ليس بخير. أريد الطلاق.”

صمتٌ ثقيل. ثم جاء صوته المرتبك:

– “هل هناك أحد؟”

– “نعم… أنا.”

– “وفاء، ماذا عن آدم؟”

– “سيعرف أن أمَّه حاولت أن تكون صادقة، ولو مرة.”


أغلقت الخط. نظرت إلى ابنها النائم. همست في الظلام: “سامحني.”


5. ما بعد المسافة


بعد عامين.

زمن واضح. مكتب جديد. لوحة باسمها على الباب: “المديرة التنفيذية.”

على الحائط مرآة كبيرة. كل صباح تمرّ أمامها بثقة. لا تبحث عن "البقية" بعد الآن، لكنها لا ترى شيئًا أيضًا؛ انعكاسها باهت كضوءٍ منطفئ.


تتلقى رسالة من المدرسة:


“دعوة لحضور مسرحية الأطفال السنوية.”


تتردد، ثم تذهب.

القاعة مزدحمة، الأضواء خافتة. تجلس في الخلف.

تسمع صوت المذيع الصغير: “الشجرة رقم خمسة: آدم رائد.”

يظهر ابنها على المسرح بثوبٍ أخضر. يبحث بعينيه بين الصفوف.

تُمسك أنفاسها، تنتظر أن يراها. لكنه يجد أباه أولاً.

وجهه يضيء. يلوّح بغصنه، يبتسم، يركض بعد العرض إلى حضنه.


وفاء لا تتحرك. تصفق بخفة ثم تبقى جالسة حتى يفرغ المكان.

تتقدم نحو المرآة الكبيرة بجانب المسرح، تلمح نفسها بين المقاعد الفارغة.

تقترب أكثر. هذه المرة لا ترى وجهها.

الضوء فوقها خافت، والزجاج لا يعكس شيئًا.

تضحك بخفوتٍ يشبه البكاء، وتهمس:

– “الآن فقط... اكتملت الصورة.”

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot