آخر من يعرف
قصة قصيرة
بقلم جمال عسكر
مقدمة السِّراد:
في السِّراد، نفتح أبواب الحكايات على مهل، كما تُفتح خزائن الذاكرة القديمة: صدفةً تلمع هنا، وجرحٌ يخفق هناك. ليست قصصنا مجرّد نصوص تُقرأ، بل مساحاتٌ يصغي فيها القارئ لصوتٍ آخر… صوت لا يجيء من الورق وحده، بل من حياةٍ تُوشك أن تُروى.
في هذه القصة، ندخل بيتًا يتشقّق صمته، ونقترب من علاقةٍ تتهاوى بين أبٍ ينسحب من ذاكرته خطوةً خطوة، وابنٍ يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه. لكن الحقيقة-كما هي دائمًا-لا تأتي كاملة، بل تتبدّى في لحظات خاطفة، وتتركنا نتساءل: مَن يعرف من؟ وماذا يبقى حين يبدأ الاسم نفسه في الضياع؟
هذه دعوة للقراءة… وللإنصات لما يختبئ خلف الكلمات.
ما عاد البيت يعرف السكينة كما عرفها من قبل. كان الهدوء فيه هشًّا، أشبه بغشاءٍ رقيق يخفي تحته توترًا لا يهدأ. جلستُ أمام أبي أراقب ارتجاف يده، وهو يحاول أن يرفع الملعقة إلى فمه. كانت الحركة بسيطة في ظاهرها، لكنها تخبرني كل ليلة أن الرجل الذي علّمني ثبات الخطوة صار الآن يرتعش كمن يسير على حافة مجهول.
القصة:
سقطت الملعقة، ثم تبعها الصحن. ارتطم بالأرض ارتطامًا بدا كأنه يُحدث شرخًا في الهواء ذاته، وتبعثرت بقاياه على البلاط في فوضى صغيرة، لكنها أصابت أبي كأنها ضربة على صدره. وقف فجأة، خطواته غير متزنة، وصوته يخرج من عمقٍ مضطرب:
"إنت… إنت حاطّط… حاجة هنا…
الأكل… ريحته مش… مش زي كل يوم…
إبعد… سيبني!"
كانت الجمل تتساقط من فمه متقطعة، بلا نظام، كما تتساقط ذاكرته من بين أصابعه. لم يكن يهاجمني فقط… كان يدافع عن نفسه ضد خوفٍ لا أراه. ومع ذلك، شعرتُ بشيء ينغرز في صدري. ماذا أفعل بجرحٍ يصنعه من أحببته حين يتوه؟
نهضتُ ببطء، أحمل عبءَ السنوات التي منذ بدأت رحلة تلاشيه. اقتربت منه، أمد يدي دون أن ألمسه، كأنّي أخشى أن ينكسر.
"يا بابا…
مفيش حاجة في الأكل…
أنا هنا… سامعك وبسندك."
لمع شيءٌ غريب في عينيه. توتر، أو ذاكرة بعيدة تحاول أن تعود. حدّق في وجهي طويلًا، كمن يبحث عن علامة تُطمئنه ولا يجدها.
"إنت… إنت ابني؟
ولا… أنا متلخبط؟
الوشوش… بقت شبه بعضها…"
كان يتحدث بصدقٍ موجوع، صدق رجلٍ خذلته ذاكرته، فصار يشك في أقرب الصور إليه. أحسستُ لحظتها أني لست وحدي الحائر؛ هو أيضًا تائه، لكنه يغرق أسرع، وأنا أحاول أن أمد له حبلًا لا أعرف إن كان يصل.
جلست أمامه، وأمسكت يده—تلك اليد التي كانت يومًا تحملني دون خوف.
كان جلده بارداً قليلاً، ناعماً بشكل يخيف.
"أنا ابنك…
حتى لو الوجوه خَدعتك.
أنا لسه هنا… ومش هاسيبك."
أخفض عينيه للحظة، كأنه يفتش في شيء داخله. صار تنفسه أثقل، وصار صمته يحمل معنى جديدًا… معنى لم أفهمه في لحظته.
ثم رفع وجهه فجأة، وبدا كأن بصيصًا من الذهن عاد إليه، ولكن ليس عودة كاملة… بل وميضًا قصيرًا، كالشرارة حين تضيء ثم تخبو فورًا.
همس، بنبرة أقل ارتعاشًا، وأقرب للوعي:
"الخاتم…
فين الخاتم اللي ادوّهوني يوم ما… يوم ما اتولد الولد؟"
توقفتُ. لم أسمع بهذا الخاتم من قبل. لم أرَه يومًا في أي درج، في أي صندوق، في أي صورة.
ابتلع ريقه بصعوبة، وأكمل بصوت كمن يُفشي سرًا ظلّ مختبئًا:
"كان… مكتوب عليه تاريخ ميلاده…
كنت أبصّله كل يوم…
علشان… ما انساش."
ثم حدّق في وجهي، حدّق بعمقٍ جعل قلبي يختل خطوة.
"وانت…
إيدك فاضية.
ليه مش لابسه؟"
لم أعرف ماذا أقول. لم أعرف ماذا يعني ذلك أصلًا.
هل يتذكر شيئًا حقيقياً؟ أم يصنع ذكرى جديدة ليحتمي بها من الفراغ؟
ولماذا يربط بين هويتي وبين خاتمٍ لم أعرف بوجوده من قبل؟
اقترب مني نصف خطوة، ثم سأل السؤال الذي شقّ جدار البيت كله:
"انت…
مين؟"
تجمد الهواء بيننا… وصار كل شيء معلقًا.
لم أستطع الرد. الكلمات التي أعرفها كانت عاجزة عن حمل هذا السؤال. كيف يجيب الإنسان عن نفسه حين يتشكك الآخر فيه؟
بل… كيف يجيب حين يتمدد الشكّ داخله هو أيضًا؟
لاحظ أبي صمتي، لكن بدل أن يزداد ذعره… هدأ.
هَدأ بطريقة أربكتني أكثر مما أخافتني.
جلس ببطء على الكرسي، وكأنه أنهى معركة طويلة، ثم قال:
"هو… الخاتم…
أنا… مش فاكر ودّيته لمين."
توقف. رفع رأسه نحوي.
لم تكن عيناه هائمتين كما قبل…
كان فيهما يقين عجيب، يقينٌ بلا سند… لكنه يقين.
"بس…
فاكر إني شيلته من… من إيد حد.
حد… كان نايم."
شعرتُ بوخزٍ في صدري…
كلمة "نايم" لم تُقل كاستعارة.
قالها كما تُقال عن شخصٍ "لا يستيقظ".
تابع بصوت منخفض جدًا، كأنّه يخشى أن يسمعه أحد غيري:
"ولما… صحّيت…
الخاتم…
ما لقتهوش."
سكت.
كأنه وضع بيننا حجرًا ثقيلًا لا أعرف كيف أزيحه.
ثم أضاف جملةً قتلت ضوء الغرفة:
"يمكن…
أنت…
مش فاكر."
لم يقلها بصوت اتّهام…
بل بصوت رجلٍ يدعوني—بهدوء مرعب—لأن أبحث في داخلي عن شيءٍ مجهول.
شيء… ربما لا أريد أن أعرفه.
الخاتمة
وهكذا تنتهي الحكاية عند تخوم السؤال، لا عند جوابٍ مُطمئن. يظلّ القارئ معلّقًا بين ما قاله الأب وما صمتَ عنه الابن، كأن الحقيقة ذاتها اختارت أن تبقى خلف بابٍ نصف مفتوح. لكن هذا هو قدرُ القصص القصيرة التي نكتبها في السِّراد: أن تترك أثرًا أطول من صفحاتها، وأن تمنح القارئ ما يحرّض خياله، لا ما يطفئه.
إذا راق لكم هذا النص، فستجدون في تبويب قصص قصيرة مزيدًا من الحكايات التي تنبض بالغموض، وتستكشف هشاشة الإنسان وعلاقاته، وتقدّم سردًا مكثّفًا يقترب من القلب بقدر ما يبتعد عن الابتذال.
اقرأوا… ولتتركوا القصص تكمل ما بدأته الكلمات.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق