موعدان في الزمن... على طاولة واحدة
مقدمة:
في "هوامش السرد" – القسم الأكثر تميزًا في موقع السَرَّاد الأدبي للقراءات النقدية والحوارات العميقة حول الأدب الكلاسيكي والمعاصر – يفتح الحوار اليوم نافذة غير مسبوقة على عالمين متباينين، متوازيين في العمق، متجاذبين في الذائقة: الحب بين الشريعة والحرية، بين الروح والخيال .
مقالنا يتجاوز حدود الدراسات التقليدية، ليوقظ خيال القارئ العربي في رحلة أدبية تجمع بين روائي فرنسي وفقيه أندلسي، في لقاء افتراضي يضم كل الهواجس الفلسفية حول معنى الحب.
هنا، في هوامش السرد، لا نكتفي بتلخيص الكتب، بل نخلط النقد بالسرد، ونبحث عن جواهر الفكرة بين ثنايا النصوص الكبرى مثل "طوق الحمامة" لابن حزم و"عن الحب" لستاندال.
إذا أردت أن تفهم كيف يلتقي الفكر العربي والفكر الأوروبي حول أعمق العواطف الإنسانية؛ إذا كنت تبحث عن تحليل أدبي يشبع رغبتك في المعرفة ويضيف إلى مكتبتك زاوية جديدة؛ فهذا الحوار هو بوصلة لقسم "هوامش السرد" في موقع الراد الأدبي، ومفتاحٌ لفهم أدب المقارن، والفلسفة الثقافية حول الحب والنفس والسرد.
تخيل أن كاتبًا أندلسيًا في القرن الحادي عشر وكاتبًا فرنسيًا في القرن التاسع عشر، يفصلهما ثمانية قرون وقارتان، يجلسان معًا في طاولة للنقاش... ماذا سيقول كل واحد منهما عن الحب؟هذا بالفعل ما يحدث حين نقرأ "طوق الحمامة" لابن حزم و"عن الحب" لستاندال. كتابان لا يختلفان فقط في الزمن والمكان، بل في كيفية رؤيتهما للعاطفة الأعمق في حياة الإنسان.
الكتاب الأول: طوق الحمامة - ابن حزم الأندلسي (1022م)
من كان ابن حزم؟
فقيه وفيلسوف أندلسي ذو عقل حاد ورومانسية خافتة. كتب كتابه عن الحب بناءً على طلب صديق، مستخدمًا ملاحظاته لحياة الحب في المجتمع الأندلسي الأرستقراطي المغلق.
الكتاب الثاني: عن الحب - ستاندال (1822م)
(De l'amour, 1822)
من كان ستاندال؟
روائي فرنسي كتب "عن الحب" بعد أن رفضته امرأة إيطالية تحبها، فجلس وحيدًا في ميلانو يحاول فهم لماذا يحب رغم الألم.
مقهى خارج الزمن
تخيَّل مقهًى هادئًا على ضفة نهرٍ لا يُعرَف اسمه، لا هو في قرطبة ولا في باريس؛ مقهى يتقاطع عنده خطّ الزمان، فتجلس على طاولة خشبية واحدة روحان يفصل بينهما ثمانية قرون.
رجل بثياب أندلسية فاخرة، قسمات حادّة ونظرة فقيه، هو ابن حزم الأندلسي صاحب "طوق الحمامة"، وإلى جواره رجل أوروبي نحيل الملامح، عيناه تمتلئان بقلق رومانسي، هو ستاندال مؤلف "عن الحب".
النادل، الذي لا نراه، يضع أمامهما فنجانين من القهوة؛ قهوة واحدة بطريقتين: عربية ثقيلة، وفرنسية سوداء.
بداية الحوار: من أنت أيها العاشق؟
يبتسم ستاندال أولًا، يميل إلى الأمام ويقول بالعربية المكسورة التي منحها له خيال القارئ:
"سمعت عنك يا أبا محمد، يقولون إنك فقيه، ولكنك كتبت واحدًا من أرقّ ما كُتب في الحب في تاريخ الإنسانية."
يردّ ابن حزم، مبتسمًا بدوره:
"وأنا بلغني خبر كتابك الذي سميته *عن الحب*، يقولون إنك شرحت كيف يعمل قلب العاشق وعقله، حتى اخترعت له اسمًا غريبًا: التبلور."
يهزّ ستاندال رأسه:
"نعم، قلت إن العقل حين يحب، يُلبس المحبوب حلّةً من الكمال، كما يغطي الملح غصنًا عاريًا في مناجم سالتسبورغ، فيصير الغصن كله كأنّه من بلّور لامع."
يرد ابن حزم بنبرة فقيهٍ حكيم:
"وأنا قلت في مطلع حديثي عن الحب: إن أوله هزل وآخره جد، وإن حقيقته لا تُدرَك إلا بالمعاناة، وإنه تآلف أرواح واتصال نفوس، لا مجرد شهوة جسد."
تعريف الحب: روح أم خيال؟
يرفع ستاندال فنجانه، يتأمل سطح القهوة ثم يقول:
"في كتابي حاولت أن أصف الحب كـ **عملية نفسية** تمرّ بمراحل: إعجاب، اعتراف، أمل، ثم تلك اللحظة التي أسمّيها التبلور، حين يختلق العاشق كمالًا في من يحب، ويستخرج من كل تفصيلة صغيرة دليلًا جديدًا على أنه كامل."
يبتسم ابن حزم ابتسامة من يعرف شيئًا قريبًا لكنه يسلك طريقًا آخر:
"أما أنا فرأيت أن الحب أصلُه في الروح لا في الصورة، وإن كان يُثبَت غالبًا عن طريق الصورة؛ وقلت إن أقوى أنواعه ذاك الذي لا سبب له إلا تناسب النفوس واتحادها، وأنه لا يزول إلا بالموت، بخلاف كل حبٍّ له سبب خارجي يزول بزوال سببه."
يعلّق ستاندال:
"إذن أنت تقسم الحب بحسب **أسبابه**، بينما أقسِّمه أنا إلى أربعة أنواع: جسدي، ولعبة ذوق اجتماعية، وحب كبرياء يريد المكانة، ثم الحب العاطفي الحقيقي الذي يعيد تشكيل الإنسان من الداخل."
ويرد ابن حزم:
"وأنا، وإن لم أضع جداول لأنواعه، فقد ميزت بين حبٍّ صادق هو تآلف الأرواح، وبين ما يسمّيه الناس حبًا وهو في الحقيقة شهوة أو طمع أو عادة؛ فالاسم واحد، ولكن الحقيقة تختلف باختلاف الدافع والغاية."
الجسد والعفة: جسد حاضر أم مؤجل؟
يضع ابن حزم الفنجان برفق، ويقول بنبرة فيها وقار الفقيه:
"في عالمي، الجسد لا يُنفى، لكنه **يُؤجَّل** إلى إطار الزواج؛ الحب عندي يبلغ كماله حين يتزوج العاشقان في الحلال، وما عدا ذلك، فإمّا تعفّف وصبر، وإما معصية وخرق لحدود الشريعة."
يتنهد ستاندال كمن يعرف أن هذه النقطة لن تمرّ بسهولة:
"أما أنا فأرى أن الحب بلا جسد حبٌّ منقوص؛ الجسد جزء أصيل من الحقيقة النفسية للحب، وقمع الرغبة الجسدية، خاصة عند المرأة، نوع من الظلم الحضاري، لا من السمو الأخلاقي."
يسأله ابن حزم بهدوء:
"ولكن ألا ترى أن إطلاق الرغبة بلا ضابط يفسد القلوب ويجعل الحب لعبة عابرة، لا عهد فيها ولا التزام؟"
يجيبه ستاندال:
"أتفق معك أن اللعب الرخيص يفسد الحب، لذا هاجمت في كتابي حب الكبرياء وحب المصلحة، ولكن الحل عندي ليس مزيدًا من القيود الخارجية، بل تربية داخلية تجعل الإنسان أصدق مع نفسه ومع من يحب."
الحرية والمجتمع: قدر أم تمرّد؟
يميل ستاندال إلى الأمام، كأنه يهمس بسرّ من أسرار القرن التاسع عشر:
"في فرنسا بعد الثورة، صار السؤال: هل نملك أن نحب من نشاء؟ المجتمع والطبقة والأسرة جميعها تتدخل، خاصة في حق المرأة، لذلك دافعت في كتابي عن حق المرأة في أن تتعلم، وأن تختار من تحبّ بحرية."
يرد ابن حزم من أفق أندلسي مختلف:
"في قرطبة، كان السؤال أقرب إلى: ماذا نفعل بهذا الحب حين يقع في قلوبنا **بغير اختيار منا**؟ لذلك قلت: من يملك قلبه؟ الحب عندي قدر، لكن الإنسان يملك أن يختار ماذا يفعل بهذا القدر: أيتعفف أم يتعدّى حدود الله."
يبتسم ستاندال بسخرية دافئة:
"إذن أنت تجعل المجتمع والدين إطارًا لا يمكن تجاوزه، بينما أرى أنا أن المجتمع هو الذي يجب أن يُسأل ويُنقد لأنه كثيرًا ما يخنق الحب بحجّة النظام والأخلاق."
يهزّ ابن حزم رأسه:
"لعل الفرق بيننا أن دينك لم يعد مركز الحياة في زمنك، بينما كان ديني في زماني هو أساس القانون والأخلاق معًا، لذلك صار سؤالي: كيف أعطي للحب مكانته دون أن أهدّ أساس الشريعة التي يقوم عليها المجتمع كله."
المرأة بين أندلس القرن الخامس وفرنسا القرن التاسع عشر
يسأل ابن حزم، وفي صوته فضول صادق:
"حدِّثني عن المرأة في عالمك، كثيرًا ما أجدك في كتابك غاضبًا من طريقة معاملة المجتمع لها."
يجيب ستاندال وهو يرسم دوائر على الطاولة بإصبعه:
"المرأة في مجتمعي تُربَّى لتكون زوجة مطيعة، لا عاشقة حرّة؛ لا يُعترَف لها برغبة خاصة، ولا بحق في الاختيار، وكثيرًا ما تُزوَّج لمصالح عائلية، لذلك رأيت أن الحب الحقيقي في أوروبا كثيرًا ما يصبح ثورة صامتة ضد هذه الأعراف."
يقول ابن حزم:
"في أندلسي، كانت المرأة محجوبة أكثر في الفضاء العام، لكنها في قلب البيوت والمجالس، ولها عقل ورأي، وقد رويت في كتابي قصص نساء ذوات دهاء وذكاء، يحببن ويخترن ويرفضن؛ غير أن الشرف والعرض كانا قيمة عليا لا يمكن المساس بهما."
يرد ستاندال:
"نتفق إذن على أن المرأة كائن عاقل قادر على الحب والفهم، لكن أدوات قمعها تختلف؛ عندك تُحاصَر باسم الشرف والدين، وعندي تُحاصَر باسم الأخلاق البورجوازية والمصالح العائلية."
يعلّق ابن حزم:
"وربّما لو جلست معنا امرأة عاشقة من زمنك وزمني، لقالت إن الألم واحد، وإن القيود تختلف في ظاهرها لكنها تلتقي في جوهرها: خوف المجتمع من قوّة الحب حين تسكن قلب امرأة."
الحب والموت: تتويج أم مأساة؟
يتوقف الحوار لحظات، كأن كليهما يسترجع وجوهًا بعيدة، ثم يقول ابن حزم:
"حكيتُ في كتابي عن عشّاق ماتوا من الوجد، وعن حبٍّ لا يزول إلا بالموت، ورأيتُ في ذلك نوعًا من **الصدق النهائي**؛ من فضّل الموت على خيانة حبه قد بلغ الغاية في الوفاء."
يجيبه ستاندال:
"أما أنا فأرى الموت أكثر كعلامة على فشل العالم من حول العاشق، لا على جمال الحب نفسه؛ أفضل أن ينتصر الحب بالحياة المشتركة، لا بأن يتحوّل إلى قصة مأساوية أخرى يصفق لها القرّاء ثم يعودون إلى أعرافهم الباردة."
يبتسم ابن حزم:
"لعل هذا الفارق بين من عاش في حضارة ترى الدنيا ممرًّا والآخرة مقرًّا، وبين من عاش في عالم بدأ يقلق على مصيره في هذه الدنيا وحدها."
نقطة الالتقاء: ماذا نتعلم منكما اليوم؟
يضع ستاندال يده على كتاب ابن حزم، ويقول:
"ما أدهشني في *طوق الحمامة* هو دقّة ملاحظتك النفسية؛ لو أزلنا الألفاظ القديمة، لبقيت الأعراض هي نفسها: الارتباك، السهر، الرسائل، الغيرة، التقلّب السريع بين الخصام والصلح، كأن قلوب العشّاق لم تتغير كثيرًا عبر القرون.
ويرد ابن حزم وهو يربّت على غلاف *عن الحب*:
"وما أعجبني في كتابك أنك حاولت أن تصنع من الحب علمًا، تقسمه إلى أنواع، وترسم له مراحل، وتشرح كيف يخدعنا خيالنا، وكيف نحمّل المحبوب من أوصاف الكمال ما ليس فيه، حتى لا نعود نرى حقيقته كما هي."
يتبادلان نظرة مفهومة، ثم يقولان كأنهما يتكلمان بصوت واحد:
"الحب واحد في أعماق الإنسان، لكن **كل حضارة تكتب قصته بلغتها الخاصة**."
خاتمة المشهد: قهوة باردة وحوار ساخن
تكون القهوة قد بردت على الطاولة، لكن الحوار ما زال ساخنًا؛ يتجادلان في التفاصيل، يتفقان على أشياء، يختلفان على أخرى، ولكن كليهما يدرك أن الآخر يكمله بطريقة ما.
فابن حزم يذكّر ستاندال بأن الحب إذا لم يَعرف حدودًا أخلاقية تحميه تحوّل بسهولة إلى نزوة عابرة، وستاندال يذكّر ابن حزم بأن الحب إذا خُنقَ تمامًا باسم الخوف من المعصية فقد يتحوّل إلى كذب ونفاق أو إلى مأساة صامتة.
وحين يغادران المقهى الذي لا زمن له، يبقى على الطاولة كتابان:
طوق الحمامة وعن الحب، كأنهما يقولان لكل قارئ معاصر:
"اقرأنا معًا، ففي المسافة بيننا ستفهم قلبك أنت، أكثر مما نفهم نحن أنفسنا."

.jpg)

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق