الدمية الأخيرة
رواية قصيرة / فانتازيا نفسية
الفصل السابع: العودة إلى الصمت
استيقظت في الصباح، إن جاز تسميته صباحًا، على نورٍ رماديّ يتسلل من النافذة.
البيت صامت على نحو غير مألوف؛ لا خشخشة في الجدران، لا أنين من الأرضية، لا رائحة احتراق.
كأن كل شيء عاد إلى حالته الأولى قبل أن تبدأ الحكاية — لكني كنت أعلم أن ذلك غير ممكن.
جلست على السرير أستمع إلى نفسي.
كان الصمت كثيفًا، ممتلئًا، حيًّا.
شبيهًا بما يسمعه الغريق بعد أن يغيب تحت الماء بلحظات من النجاة.
نظرت إلى الزاوية حيث كان الموقد. لم يبقَ من الطقس سوى بقعة رمادٍ صغيرة، تتوهج أحيانًا كأن تحتها جمرٌ لم ينطفئ بعد.
في قلب الرماد، شيء لامع صغير: عين زجاجية من الدمية، لم تحترق.
التقطتها، فشعرت ببرودة غريبة تسري في كفي.
وضعتها على الطاولة، وبقيت أنظر إليها طويلاً.
تذكرت كل ما حدث، لكن الذاكرة لم تعد تسلسلاً للأحداث، بل خيوطًا متداخلة من الضوء والصوت والرماد.
لم أعد أعرف إن كانت أمي هي التي عادت عبر الخشب، أم أني أنا الذي صنعها من وحدتي.
هل كانت الدمية كائنًا سحريًا أم مرآةً لجنوني؟
كل الإجابات بدت صحيحة في اللحظة ذاتها، وخاطئة بعدها مباشرة.
خرجت من الغرفة.
الممرّ طويل على غير العادة، كأن البيت تمدّد ليتنفس أخيرًا.
في الجدار آثار الشقوق القديمة، لكنها لم تعد تثير الخوف.
كانت أقرب إلى تجاعيد وجهٍ هدأ بعد بكاءٍ طويل.
وقفت أمام الباب الذي لم يُفتح منذ زمن.
كم مرة حلمت أن أفتحه ولا أجرؤ؟
الآن، بلا تفكير، وضعت يدي على المقبض.
تحرك بسهولة، كما لو أن البيت نفسه سمح لي بالخروج.
خارج البيت لم يكن هناك شارع كما كنت أعرفه.
كان المكان أرضًا عاريةً، ممتدة إلى الأفق، مغطاة بضبابٍ خفيف يشبه الغبار اللامع.
السماء بلا لون.
لكن هناك نسمة هواء باردة، ناعمة، تشبه لمسة يدٍ قديمة كنت أعرفها.
سمعت النغمة القديمة من بعيد — النغمة التي بدأت بها الحكاية، لكنها الآن هادئة، بلا حزن.
كأنها تدعو لا إلى البكاء، بل إلى الإصغاء.
كلما تقدمت خطوة، تراجعت النغمة خطوة أخرى، كأنها تقودني إلى جهةٍ لا أعرفها.
حين نظرت خلفي، كان البيت يختفي ببطء، يذوب في الضباب.
لم أشعر بالخسارة، بل بالاكتمال.
كان ذلك الفناء الرماديّ أكثر صدقًا من أي حياةٍ عرفتها.
توقفتُ عند صخرة صغيرة وجلست.
وضعت العين الزجاجية في راحتي، تأملتها.
انعكس فيها وجهي للحظة، لكن ملامحي لم تكن كما أعرفها.
كان وجهي شاحبًا، لامعًا من الداخل، كأن الضوء يسكنني لا العكس.
سمعت في رأسي صوتها الأخير، بلا نغمة هذه المرة، بلا لهجةٍ بشرية:
ــ لا تبحث عني بعد الآن. أنا في الصمت الذي بين أنفاسك. كل حبٍّ حقيقيٍّ يعود إلى الصمت في النهاية.
رفعت رأسي نحو السماء الرمادية.
لم أجد فيها شمسًا ولا سحبًا، فقط فضاء مفتوح يتنفس معي.
أغمضت عينيّ.
كان بإمكاني أن أعود إلى المدينة، إلى الناس، إلى حياةٍ عادية.
لكن شيئًا في داخلي كان قد تبدّل جذريًا؛ لم يعد العالم كما كان، ولم أعد أنا كما كنت.
ربما لم أعد إنسانًا تمامًا، وربما لم أعد دمية أيضًا.
كنت شيئًا ثالثًا — صدىً من حياةٍ انطفأت لتضيء في مكانٍ آخر.
مرت لحظة طويلة بلا زمن، قبل أن أشعر بنغمةٍ جديدة تولد داخلي.
لم تكن نغمة أمي، بل صوتي أنا.
هادئ، ثابت، يتردّد في الفراغ كهمس الخشب بعد أن ينتهي من الاحتراق.
عندها فهمت أن الخلاص لم يكن في العودة إليها، بل في أن أتعلم الصمت الذي كانت تصنعه بيديها وهي تنحت.
ذلك الصمت الذي يبدأ منه الخلق وينتهي إليه.
فتحت عينيّ.
الضباب كان ينقشع ببطء.
في البعيد، شيء يشبه الضوء ينتظرني.
قمت، ومضيت نحوه، وأنا أسمع العالم لأول مرة بلا خوف.
لم يكن العالم جديدًا.
لكنّني أنا الذي وُلد من رماد الخشب.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق