الدمية الأخيرة
رواية قصيرة / فانتازيا نفسية
الفصل السادس: الطقس
منذ تلك الليلة، لم أعرف أين أعيش.
لم يعد البيت بيتًا، ولا الليل ليلًا.
الخشب في الجدران صار لحمًا يتنفس، والنوافذ تفتح على فراغٍ لا نهاية له.
وحين أنظر من خلالها، أرى العالم يتكرّر بلا بشر، شوارع بلا أصوات، وأشجار بلا ظلّ.
كنت أمشي داخل البيت كما لو أني أمشي في حلمٍ قديم، لكنه لم يعد حلمي وحدي.
كانت الدمية تتبعني بخطواتٍ لا تُسمع، كظلٍّ يسبق صاحبه.
وعندما أستدير، أجدها أقرب مما كانت عليه قبل لحظة.
في إحدى الزوايا رأيت المرآة الأخيرة التي لم تتحطم بعد.
انعكاسي فيها بدا متشققًا كوجه تمثال مهجور.
ولوهلة، رأيت أمي خلفي في المرآة، تضع يدها على كتفي.
قالت بصوتٍ هادئ، كأنها تعلّم طفلًا الصلاة الأولى:
ــ الآن يبدأ الطقس يا يوسف. لقد اكتمل الخشب، وبقيت النار.
كنت أرتجف.
سألتها:
ــ أي طقس؟
قالت:
ــ الطقس الذي يُعيد ما انكسر بيننا. لا خلاص دون احتراق.
تقدّمتُ بخطواتٍ بطيئة نحو الموقد.
كانت النار فيه زرقاء، باردة كجليدٍ مضاء من الداخل.
حين اقتربت أكثر، سمعت من أعمقها نغمةً حزينة، النغمة نفسها التي سمعتها في الليلة الأولى بعد موتها.
النغمة التي نادتني باسمٍ لم يُنطق منذ طفولتي:
ــ “يوسو”، الاسم الذي كانت تستخدمه وهي تلاعبني في صغري.
انحنيت أمام اللهب، فرأيت انعكاس وجهها في داخله، لكن وجهها لم يكن لحمًا، بل خشبًا محروق الحواف.
قالت:
ــ لقد اختلطت دماؤنا بالزيت، والآن سيكتمل الدرس.
رفعت الدمية بين يديّ.
كانت خفيفة، كأنها لم تُصنع من مادةٍ حقيقية.
لكن في عينيها اشتعل وميض يشبه الإدراك، مزيج من الحزن والحنين.
ــ أمي، هل أنتِ في الداخل؟
ــ أنا ما تبقّى منك، وما لم يكتمل بعد فيّ.
ثم امتدّ من صدرها خيط من الضوء الأبيض، خفيف كالأنفاس.
اتجه الخيط نحوي، واخترق صدري ببطء دون ألم.
في تلك اللحظة شعرت بأن كل ما عشته من قبل لم يكن إلا مقدمة لهذه اللحظة.
كل وحدتي، كل صمتي، كل خوفي، كان تهيئة لاحتراقٍ جميل.
سمعت أصواتًا تتردّد في البيت، كجوقة بعيدة تغني بلغةٍ لم أسمعها من قبل.
البيت كله بدأ يتحرك بإيقاعٍ واحد.
الأرض تهتزّ، الجدران تتلوّى كأنها ترقص، والنوافذ تُصدر نغمة تتماوج مع النار.
كنت في قلب لحنٍ هائل لا يسمعه إلا من يقف بين الحياة والموت.
الدمية بدأت تتفتت في يديّ.
لكن كل قطعة منها صارت تضيء قبل أن تسقط.
حين لم يبقَ منها سوى الرأس، نظرت إليّ وقالت:
ــ لا تخف من النار. ليست لتأكلك، بل لتصهرك حتى تعود صوتًا كما كنت.
ثم ابتسمت، وسقط الرأس في اللهب.
لم أصرخ. لم أستطع.
كانت النار تتسع حتى غمرت الغرفة كلها، لكني لم أشعر بحرارةٍ ولا ألم.
فقط شعور بالتحرّر، كأن شيئًا في صدري انفتح بعد عمرٍ من الاختناق.
رأيت وجهي يذوب في الضوء، ورأيت أمي خارجةً منه بخطواتٍ بطيئة، تمشي فوق الأرضية المحترقة دون أن تحترق.
اقتربت مني، وضعت يدها على جبيني، وقالت بصوتٍ خافت:
ــ لقد كبرت أخيرًا.
ثم انحنت وقبّلتني.
عندها اختفى كل شيء.
لم يعد هناك بيت ولا نار ولا خشب.
كنت في مكانٍ رماديّ بلا أرض ولا سماء، فقط موسيقى مستمرة تشبه تنفّس البحر.
في ذلك الفضاء، سمعت صوتها مرة أخرى، لا من الخارج بل من داخلي:
ــ الطقس انتهى يا يوسف، لكنك لم تُخلق بعد. كل ما حدث كان ولادةً مؤجّلة.
حين فتحت عيني، وجدت نفسي في السرير، كما لو أن كل شيء كان حلمًا.
لكن رائحة الزيت والمطر كانت ما تزال عالقة في الهواء.
وفي الزاوية، بقايا رماد على شكل دمية صغيرة.
من تحت الرماد، خرجت نغمة واحدة، قصيرة، كأنها وداعٌ مكتوم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق