الدمية الأخيرة
رواية قصيرة / فانتازيا نفسية
مقدّمة
— الدمية الأخيرة —
لم تكن أمّي تصنع الدمى لتبيعها، بل لتؤنس صمتها.كانت تجلس قرب النافذة السفلية في بيتٍ ضيّق لا يزوره أحد، ويديها المقيّدتان ببطءٍ غامض تواصلان العمل بخيوطٍ من الضوء والغبار.كل دمية كانت تشبه وجهًا لم يعد في الذاكرة، وكلّ خيطٍ كانت تغزله كان امتدادًا لروحٍ خافتة تحاول البقاء.لم أفهم آنذاك لماذا كانت تحدّثها أحيانًا بصوتٍ منخفض، أو تبتسم لها كما لو كانت طفلاً حيًّا.كنت أرى في ذلك هوسًا أو وحدةً مزمنة، ولم أعرف إلا بعد موتها أن تلك الدمى كانت أكثر من خشبٍ وقماش.في الليلة التي رحلت فيها، كان في الزاوية جسدٌ صغير لم يكتمل بعد — دمية بلا عيون، بلا صوت.نسيتها كما نسيتُ كل شيء آخر، حتى سمعتُ بعد أيامٍ نغمةً حزينة قادمة من الغرفة المغلقة، نغمة تشبه صوتها وهي تناديني صغيرًا.تلك كانت بداية الحكاية.منذ تلك الليلة لم أعد أعلم من منا الإنسان ومن الخشب، ولا أين يبدأ الموت وأين تنتهي الحياة.كل ما أعرفه أن أمّي تركت خلفها الدمية الأخيرة — وأنا كنت الجزء الناقص منها.
الفصل الأول: البيت الذي لا يُفتح بابه
لم أكن أظن أن الأبواب يمكن أن تكره أصحابها. لكن باب بيتنا ــ ذلك الباب الخشبي العجوز الذي كانت أمي تمسحه كل صباح بقطعة قماش مبللة بالخل ــ صار بعد موتها يرفض أن يُفتح بسهولة. المفاتيح تنزلق في ثقب القفل كأنها تلامس جسدًا يتقزّز من اللمس. والمقبض يئنّ، يصدر صوتًا أقرب إلى الزفير منه إلى الصرير.
لم أعد أغادر البيت كثيرًا. كنت أقول لنفسي إنني مشغول بترتيب أغراضها، لكن الحقيقة أن العالم خلف الباب بدا لوهلة أكبر مما أحتمل. منذ رحيلها، صارت الغرفة تضيق والهواء يثقل. الأشياء التي كانت ساكنة اكتسبت طابعًا مراوغًا: الكرسيّ المتحرك في الزاوية كأنه ينتظر أن تعود لتدفعه، والمرآة فوق السرير تحتفظ بانعكاسها كأنها رفضت تصديق موتها.
كانت أمي تصنع الدمى. أصابعها المرتجفة، رغم الإعاقة التي حدّت من حركتها، كانت تعرف طريقها في الخشب كما تعرف الطيور طريقها في الهجرة. لم تكن تصنعها للبيع فقط، بل كأنها تنقذ بها شيئًا من نفسها. كانت الدمى عندها أبناء مؤقتين، تمنحهم من روحها ما تبقّى.
قبل موتها بأسابيع، بدأت تعمل على دمية غريبة. خشبها أغمق من المعتاد، مائل إلى السواد، كأنها اقتُطعت من جذع احترق جزئيًا. لم أكن أهتم، لم أعد صغيرًا لأعبث بالألعاب. كنت أهرب من حديثها عنها كلما حاولت إشراكي في التفاصيل. أقول لها مازحًا: "لن ألعب بالخشب يا أمي." كانت تبتسم بتعب، ترفع رأسها من بين الأدوات وتقول: "لن تكون دمية، إنها شيء آخر."
لم أسألها ما هو “الشيء الآخر”. الآن أتمنى لو فعلت.
في اليوم الذي ماتت فيه، كانت تجلس قرب النافذة، أمام الطاولة الصغيرة التي تزدحم بالأدوات: مطرقة، مسامير دقيقة، فرشاة مبللة بزيت بارد، ورأس الدمية المقطوع من جذعه. وجدت وجهها مطروحًا على الطاولة، نصف منحنٍ، كأنها كانت تستمع لنبض الخشب حتى آخر لحظة. لم يكن في الغرفة صوت سوى خرير المطر في السطح المعدني.
منذ ذلك اليوم، لم أجرؤ على لمس تلك الطاولة. بقيت كما هي، كأنها مزار صغير لروحها.
الأيام التي تلت بدت بلا زمن. فقدت الشهية، لم يعد النوم يزورني إلا في نوبات قصيرة متقطعة. كنت أسمع أحيانًا في الليل أصواتًا غامضة: فرقعة في الخشب، اهتزازًا في الزجاج، خفقانًا غير منتظم في الجدران. في البداية ظننتها توهمات، لكن شيئًا في هذه الأصوات كان يحمل نغمة حزينة، أقرب إلى موسيقى مكتومة تأتي من مكان بعيد.
ذات مساء، جلست في العتمة أراقب الغرفة. الضوء الخافت القادم من الشارع يرتطم بالستائر المهترئة ويترك على الجدار ظلالًا تتحرك ببطء، كأنها أنفاس نائمة. رأيت الطاولة في الزاوية، والدمية فوقها. وجهها كان نصف مغطّى بالقماش الأبيض. فكرت أن أغطيه كله، لكن شعورًا غريبًا تملكني: كأن الوجه يراقبني من تحت القماش.
قمت من مكاني، اقتربت.
مددت يدي نحوها، فتوقف كل شيء في الغرفة عن الحركة، حتى المطر بدا وكأنه انقطع فجأة. في تلك اللحظة، سمعت بوضوح نغمة واحدة، طويلة، حزينة، تصدر من داخل الخشب.
لم تكن نغمة آلة موسيقية، بل صوتًا نابضًا بالحياة. خشبيّ الملمس، رطب النبرة، يشبه بكاء مكتومًا داخل صدر مغلق.
تراجعت خطوة إلى الوراء، ثم اثنتين. لم يكن في البيت أحد غيري، ولا في رأسي عقل مستعد لتصديق ما حدث. لكن الصوت تكرّر، هذه المرة أقصر، كأنه نداء بلا كلمات.
أطفأت الضوء فورًا، وجلست في الظلام أترقب. لم يأتِ شيء. فقط ظلت النغمة عالقة في أذني كصدى بعيد.
في تلك الليلة، لم أنم. بقيت أحدّق في السقف حتى الصباح، أتساءل: هل الخشب يحلم أيضًا؟
🔹 تابع القصة:
اقرأ الفصول السبعة كاملة عبر الصفحة المخصصة:
[رابط صفحة "القصة الكاملة – الفصول بالترتيب"]
أو انتقل مباشرة إلى الفصل التالي:

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق