السراد

في السَرَّاد، للحكاية بقية. تصفح أجمل القصص العربية والروايات المشوقة. منصة أدبية متميزة تجمع بين أصالة اللغة وروعة الخيال. تابع أحدث الإبداعات.

جديد الموقع

Post Top Ad

Your Ad Spot

الثلاثاء، 11 نوفمبر 2025

الدمية الأخيرة – الفصل الثاني: الصوت

 الدمية الأخيرة  – الفصل الثاني:  الصوت 




لم يتركني ذلك الصوت. طوال اليوم التالي ظل يتردّد في رأسي كما يتردّد صدى قطرة في بئرٍ عميق. حاولت أن أشغل نفسي بالأشياء اليومية — غسلت الصحون، رتبت الملابس القديمة، فتحت النوافذ ليدخل الهواء — لكن كل ما فعلته بدا بلا جدوى. كان البيت نفسه كمن يحتفظ بأنفاسه، ينتظر لحظة لا يريد أن يخبرني عنها.

حين حلّ المساء، شعرت كأن الضوء يأبى المغادرة. غابت الشمس ببطء شديد، حتى صار لون السماء رماديًا كثيفًا، والظلّ يتمدد فوق الأثاث كما لو كان سائلًا أسود. جلست عند الطاولة التي ماتت أمامها أمي، مترددًا بين الخوف والفضول. أمامي الدمية، كما تركتها تمامًا: وجه نصف منحوت، عين زجاجية واحدة، وشقّ صغير عند الشفاه كأنها تستعد للكلام منذ زمن بعيد.

قلت لنفسي إن ما سمعته ليلة الأمس كان محض وهم.

لكن حين لمست الطاولة بأطراف أصابعي، اهتزّ الخشب تحت يدي، لا بقوة، بل بنبض خفيف يشبه خفقان قلب طفل.

عندها جاءت النغمة مرة أخرى.

هذه المرة أقرب، أنعم، لكنها واضحة. لم أكن أسمعها بأذني فقط، بل في صدري أيضًا، كأنها تمرّ عبر العظام. حاولت أن أبتعد، لكن شيئًا في الصوت كان يجرّني إلى الأمام، يجذبني ببطء نحو الدمية.

قلت بصوت مبحوح:

ــ من هناك؟

لم يجب أحد.

ثم تكررت النغمة، وتحولت تدريجيًا إلى صوت بشري، خافت ومتهدج، لكنه مألوف على نحو موجع.

ــ يوسف...

تجمّدت.

ذلك النداء، تلك الطريقة في نطق اسمي: مزيج من اللين واللوم، لم أسمعها إلا منها.

ــ أمي؟

لم يكن هناك ردّ.

البيت كله كان يستمع معي. الهواء توقف، الساعة الحائطية توقفت، حتى المطر الذي بدأ عند المساء انقطع فجأة.

ــ يوسف...

المرة الثانية كانت أقرب، كأنها خرجت من داخل الدمية نفسها.

اقتربت حتى صرت أمامها تمامًا. نظرت إلى وجهها الخشبيّ الذي يعكس ضوء القمر الباهت. لم يتحرك شيء، لكنني سمعت النفس، واضحًا، يتردد من الشقّ الصغير عند فمها.

ــ يوسف، لماذا تركتني وحدي؟

تراجعت خطوتين. جسدي يرتعش كمن يواجه حقيقته الأولى. لم أجب. كنت أخشى أن أنطق فينكسر السحر أو يتحقق الكابوس.

الصوت تابع بهدوء غريب:

ــ البرد هنا مختلف، لا يُشبه برد الأرض.

ــ أمي... أهذا أنت حقًا؟

ــ لا تسأل كثيرًا يا بني، فالكلمات تثقل عليّ.

ترددت، ثم اقتربت ثانية. وضعت يدي على الطاولة. كانت باردة على نحوٍ غير طبيعي، لكن الوجه الخشبي كان دافئًا قليلًا. كأن حرارة إنسان تنبع من داخله.

قلت بصوت خافت:

ــ لماذا أسمعك الآن؟

ــ لأنك أخيرًا أصغيت. كنت أُناديك منذ ليالٍ طويلة، لكنك تغلق قلبك كما تغلق الباب.

صمتُّ. شعرت بانقباض في صدري. لم أعرف إن كنت أريد سماع المزيد.

ــ ماذا تريدين مني؟

ــ أن تُكمل ما بدأته يداي. لم أستطع إنهاءها، وكان الوقت قد انتهى.

نظرت إلى أدواتها المبعثرة على الطاولة. المطرقة الصغيرة، المسامير الدقيقة، شظايا الخشب التي تركتها كما هي. كانت كلها كأنها تنتظر لحظة البعث.

ــ لكن... لا أفهم.

ــ ستفهم حين تلمسها، حين تمنحها شكلك.

لم أستطع أن أتحرك. كانت الكلمات تخرج منها ببطء، كأنها تتعلم النطق من جديد. وبين كل جملة وجملة، أسمع أنينًا خفيفًا يشبه حفيف الأشجار في الريح.

ثم ساد صمت طويل.

رفعت نظري نحو وجهها. عندها، وللمرة الأولى، رأيت عينها الزجاجية تلمع بوميض خافت، لا كضوء، بل كدمعة معلقة.

شعرت أن قلبي يُسحب من صدري.

أردت أن أهرب، لكن قدميّ لم تتحركا.

ــ أمي، إن كنتِ هناك فعلًا، قولي لي ماذا أفعل.

ــ لا شيء الآن... فقط استمع، وابقَ قريبًا. الليل سيشرح لك البقية.

وانطفأ الصوت.

ظللت واقفًا في مكانى دقائق لا أعرف كم عددها. كانت الدمية صامتة من جديد، جامدة كجسد ميت. لكن شيئًا في الهواء تغيّر: لم يعد صمت البيت كما كان، بل صمتٌ يراقب.

تراجعت إلى الخلف حتى وصلت باب الغرفة، أطفأت المصباح، وتركتها كما هي.

في الممرّ، وأنا أعبر نحو غرفتي، سمعت النغمة للمرة الأخيرة تلك الليلة. قصيرة، رقيقة، لكنها هذه المرة لم تكن حزينة.

كانت أشبه بنبض قلبٍ استعاد جزءًا مفقودًا من نفسه.



⬅️ [الفصل السابق](رابط الفصل السابق)

➡️ [الفصل التالي](رابط الفصل التالي)


📖 [العودة إلى الفهرس الكامل](رابط صفحة الفهرس)


الوسوم (Labels):



[الدمية الأخيرةقصص طويلة، أدب سردي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot