السراد

في السَرَّاد، للحكاية بقية. تصفح أجمل القصص العربية والروايات المشوقة. منصة أدبية متميزة تجمع بين أصالة اللغة وروعة الخيال. تابع أحدث الإبداعات.

جديد الموقع

Post Top Ad

Your Ad Spot

الجمعة، 14 نوفمبر 2025

الدمية الأخيرة – الفصل الثالث:استيقاظ الخشب

  الدمية الأخيرة  – الفصل الثالث:استيقاظ الخشب



لم أفتح النافذة في الصباح. الضوء في بيتنا لم يكن صديقًا، بل كائنًا متطفلًا يفضح ما يجب أن يبقى غامضًا. جلست على الأرض أستمع إلى تنفّس الجدران؛ نعم، كأن للجدران صدرًا يعلو ويهبط ببطء. كل شيء في البيت صار يحيا بطريقة لا تُرى.

أظن أن الليل لم يغادرني تمامًا. ربما كنت أعيش في استمراره.

قضيت النهار أتجنّب الغرفة التي فيها الطاولة. لكن المساء جاء، ومعه الصوت الخفيف الذي يشبه النداء البعيد. كان يشبه المطر حين يبدأ، لا يُرى، بل يُحسّ.

وقفت عند عتبة الغرفة.

الهواء في الداخل أثقل من الخارج، كأن المكان يبتلع نفسه. الطاولة كما تركتها، لكن الدمية... لم تعد كما كانت.

كانت جالسة بزاوية مختلفة. أقسم أني تركتها مواجهة النافذة، لكنها الآن تميل قليلًا نحو الباب.

وجهها بدا أكمل، والعين الزجاجية تلمع بضوء لا مصدر له. لون الخشب تغيّر أيضًا؛ أصبح أكثر دفئًا، أقرب إلى لون الجلد.

لم أقترب فورًا. بقيت أراقبها من مكاني. هناك إحساس غير منطقي يخبرني أن أي حركة قد توقظ شيئًا آخر غيرها.

قلت بصوتٍ مبحوح، كما لو كنت أختبر وجودي:

ــ أمي؟

الصمت طويل، لكن بعده جاء الخفق الخفيف من داخلها، كما لو أن قلبًا خشبيًا بدأ يخفق.

ــ يوسف... أأزعجتك نغمة الأمس؟

ــ لا. لكن... لا أفهم ما يحدث.

ــ الخشب يتذكّر، يا بني. هو مثلي، لا ينسى ملامسة اليد التي صنعته.

اقتربت خطوة. كنت أسمع النبض، بوضوح أكثر. كان يشبه تردّد موجة في صدفة بحرية.

قلت:

ــ ما معنى أن يتذكّر الخشب؟

ــ كل شيء فيه ذرة حياة. نحن فقط نتوهّم الموت.

سكتت قليلًا ثم أضافت:

ــ لم أستطع إنهاء وجهي، لأنني لم أرك كاملًا بعد. كنت دائمًا بعيدًا عني، حتى وأنا أراك.

لم أعرف بماذا أجيب. كانت الجملة تجرّ شيئًا من قلبي لم أعرف اسمه.

قلت فقط:

ــ ماذا تريدين أن أفعل؟

ــ أكملني.

نظرت إلى الأدوات الملقاة على الطاولة. الخشب، المسامير، السكين الصغيرة. يداي ارتجفتا حين أمسكت بالسكين. شعرت بحرارة خفيفة تسري في أصابعي، كأن الخشب يرحّب بالعودة.

بدأت أنحت بحذر. كل ضربة صغيرة كانت تترك أثرًا غريبًا في صدري، كأنني أنحت داخلي لا أمامي.

كانت الدمية تهمس أحيانًا:

ــ أعمق... لا تخف من الجرح، فالخشب لا ينزف إلا ليصير أجمل.

كلما اقتربت من اكتمال الوجه، كانت الغرفة تتغير. الجدران تبتعد أو تقترب بحسب الضوء. رائحة الزيت تتحوّل إلى عطرٍ يشبه شعر أمي. حتى صوت المطر عاد، لكنه لم يكن في الخارج. كان يأتي من داخل البيت، من مكانٍ مجهول.

في لحظةٍ، حين رفعت رأسي لأتأكد من ملامحها، رأيت شيئًا لم أستطع تفسيره.

لم يكن الخشب فقط الذي تغيّر، بل ملامحها بدأت تشبه ملامحي. عظام الوجنتين، انحناءة الفم، حتى الشعور الخفيف بالضيق في نظرتي.

قلت بخوف:

ــ لماذا وجهي؟

ــ لأنك بقيت نصفي المفقود. ولأن الفقد يحتاج شكلاً ليبقى.

شعرت بالغرفة تميل، بالأرض تتنفس. كانت الكلمات تنزلق في رأسي كما تنزلق المرايا حين تذوب. حاولت أن أبتعد، لكن الخشب كان يلتصق بيدي، وكأنه جزء مني.

أمي ــ أو ما تبقى منها ــ قالت:

ــ لا تخف، يوسف. ما يخرج من الخشب ليس موتًا، بل تذكّر.

تراجعت، نظرت إلى وجهي المنحوت أمامي. لم يكن فيه حياة، لكنه لم يكن ميتًا أيضًا.

كان في منتصف الطريق بين الاثنين، مثل كل شيءٍ في هذا البيت.

رفعت رأسي فرأيت أن الظلال على الحائط بدأت تتحرك وحدها، ببطءٍ منسجمٍ مع أنينٍ خفيف يأتي من الأعماق.

الهواء تغيّر، صار يشبه صوتًا طويلًا يتنفس في ضلوعي.

مدّت الدمية يدها، أو هكذا خُيّل إليّ، ببطءٍ لا يمكن أن تراه العين بل يُحَسّ به. لمست أطراف أصابعي. كانت دافئة.

ــ يوسف... إن لم تكتمل، سينكسر كل شيء.

قبل أن أسألها ماذا تقصد، انطفأ الضوء فجأة.

وسمعت في العتمة صوت الخشب يتشقق، كأن جسدًا يولد من نفسه.



⬅️ [الفصل السابق](رابط الفصل السابق)

➡️ [الفصل التالي](رابط الفصل التالي)


📖 [العودة إلى الفهرس الكامل](رابط صفحة الفهرس)



[الدمية الأخيرة]، قصص طويلة، أدب سردي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot