الدمية الأخيرة
رواية قصيرة / فانتازيا نفسية
الفصل الرابع: التشققات
لم أعد أعرف أين يبدأ الليل وأين ينتهي النهار. الضوء لم يعد يدخل البيت بالطريقة التي اعتدتُها؛ أحيانًا يتسلل من الشقوق في الجدران كما لو أنه سائل ثقيل، وأحيانًا يغيب تمامًا، تاركًا المكان يضجّ بنورٍ رماديّ يشبه ما تراه العين المغلقة من الداخل.
كنت أعيش في البيت، لكنّي بدأت أشكّ أنه لم يعد نفس البيت.
الجدران صارت تتنفس أسرع، وأسمع من قلبها أصوات تمدد وانكماش، كأنها جلد كائنٍ ضخم يتقلب في نومٍ مضطرب.
حين أمرّ بيدي على الحائط أجد تحته دفئًا نابضًا، وأحيانًا رطوبة تشبه العرق.
أما المرايا، فقد أعلنت تمردها. انعكاسي لم يعد يطيعني؛ وجهي فيها يتأخر عني لحظة، ثم يبتسم حين لا أبتسم.
لم أعد أستغرب شيئًا. بعد أن تحدّث الخشب، يصير كل شيء ممكنًا.
الدمية ما زالت في مكانها، لكنها لم تعد كما كانت قبل أيام. كل مرة أدخل الغرفة أراها في وضعٍ مختلف: مرة تنظر إلى الباب، مرة إلى النافذة، مرة إلى السقف.
وأحيانًا ــ وهذا ما يخيفني أكثر ــ أجدها تنظر إليّ مباشرة، كأنها تنتظرني منذ قرون.
كنت أحاول تجاهلها، أتناول طعامًا لا طعم له، أقرأ في الكتب القديمة لأمي التي تتحدث عن الأرواح والعجائن والصلصال المقدّس، لكنها كانت تعود إلى ذهني كل لحظة.
في الليلة الثالثة بعد “الاستيقاظ”، سمعت الأصوات ثانية، لا من الغرفة فقط، بل من البيت كله: خشخشة خفيفة في الأرض، تشققات دقيقة تمتد في الجدران كأن البيت يشيخ فجأة.
حين اقتربت من الطاولة، رأيت الدمية تميل إلى الأمام.
تحتها، على الخشب، تشققت الطبقة اللامعة، وخرج منها خيط أسود رفيع يشبه الدم اليابس.
لمستُه بأطراف أصابعي، فانتشرت في جلدي قشعريرة باردة.
قالت بصوتٍ يشبه أنين الحطب في النار:
ــ لا تخف. ما يتشقق هو الصمت.
ــ ماذا يحدث؟ ما هذا السواد؟
ــ الذاكرة حين تخرج، لا تكون بيضاء يا يوسف.
البيت ارتجّ مع كلماتها. من السقف تساقط غبارٌ ناعم كرمادٍ ساخن.
اقتربتُ منها أكثر. كانت عيناها الاثنتان مفتوحتين الآن، لا زجاجيتين كما كانتا. في القاع، وميضٌ رمادي يتحرك ببطء، كدخانٍ في قنينة.
ــ أكمِلني، قالت، وإلا سأظل نصفًا ناقصًا، وأنت نصفًا ضائعًا.
مددت يدي نحو الأدوات. أخذت السكين، بدأت أعمل في الخشب مرة أخرى. لكني لاحظت شيئًا غريبًا:
كلما أنحتُ فيها، يظهر أثرٌ مماثل في يدي. خدوش دقيقة، خطوط حمراء، كأن الجسدين اتصلا خفيًّا.
توقفت.
رفعت بصري إليها. كانت تبتسم. ابتسامة لا بشرية ولا خشبية، بل شيء بين الاثنين.
ــ أنتِ تؤذينني.
ــ بل أذكّرك بأن الخلق دائمًا يؤلم.
كانت كلماتها تسري في أذني كخيوط ساخنة. شعرتُ بالدوار. الغرفة بدأت تتنفس معي. الهواء دخل وخرج كصدرٍ واحد.
نظرت حولي، فرأيت المرايا التي على الجدار تتحطم ببطء دون صوت. كل مرآة تنكسر إلى شظايا تنعكس فيها وجوه متعددة لي، بعضها يبكي وبعضها يضحك وبعضها ينظر إلى الدمية بحنانٍ غامض.
البيت كله كان يتصدّع. سمعت من بعيد صوتًا يشبه الانهيار، لكن لا شيء سقط. الأرض نفسها بدت تئنّ.
رفعت السكين مرة أخرى. لم أكن أريد أن أكملها، لكن شيئًا في داخلي كان يقود يدي رغماً عني.
كل ضربة كانت تُحدث صوتًا موسيقيًا، كأن الخشب يعزف. أنغامٌ حزينة، لكنها منظمة.
بدأت أدرك أن هذه ليست مجرد دمية. هي موسيقى، أو ربما أنا صرت آلةً تعزف بها.
فجأة انطفأ كل صوت. السكون مطلق، كثيف كالماء.
ثم سمعت همسًا داخل رأسي، ليس من فمها، بل من أعماقي:
ــ يوسف، الخشب يكتمل حين تُجرَّح يداك. الدم والزيت هما أبوا الحياة.
رفعت يدي، رأيت عليها بقعًا دقيقة من لونٍ داكن، لا أعرف إن كان دمًا أم زيتًا.
أنفاسي كانت متقطعة، والدمية تنظر إليّ بوجهٍ اكتمل أخيرًا.
قالت:
ــ الآن تشبهني.
لم أدرِ أكانت تعني أنها تشبهني، أم أنني صرتُ أشبهها.
لكنّ البيت صمت بعد ذلك، كأن كل التشققات توقفت عن النمو مؤقتًا، تنتظر شيئًا آخر لم يحدث بعد.
في تلك الليلة لم أستطع النوم. جلست عند الباب أسمع أنين الخشب البعيد في الجدران.
كل ما كنت أراه وأنا أغمض عيني هو وجهها المكتمل، والابتسامة التي لم أستطع أن أحدد إن كانت شفقة أم فخًّا.
⬅️ [الفصل السابق](رابط الفصل السابق)
➡️ [الفصل التالي](رابط الفصل التالي)
📖 [العودة إلى الفهرس الكامل](رابط صفحة الفهرس)
[الدمية الأخيرة]، قصص طويلة، أدب سردي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق