آخر أوتار بيكاسو
قصة بقلم: جمال عسكر
مقدمة:
في فضاءٍ تتقاطع فيه الفنّ والكلمة والغموض، يولد "السّراد الأدبي" كمنصةٍ تحتفي بجمال الحكاية وعمق الفكرة.
هنا، لا تُروى القصص فحسب، بل تُستعاد الأرواح التي خلفها الأدب على جدران الذاكرة.
من القصة البوليسية الفلسفية إلى السرد الرمزي والواقعي الحديث، يجمع "السّراد الأدبي" بين جمال اللغة ودهشة الاكتشاف، مقدّمًا محتوى أدبيًا عربيًا يليق بذائقة القارئ الباحث عن المعنى، لا الخبر.
أحدث إصداراتنا، قصة «آخر أوتار بيكاسو»، تمزج بين الغموض البوليسي والرمزية الفنية، مستوحاة من اختفاء لوحة لبيكاسو، لتغوص في أسئلة الحقيقة والوهم، الفنّ والجريمة، والإنسان الذي يطارد ظله في مرايا الجمال.
في "السّراد الأدبي"، كل نصٍّ نافذة على عوالمٍ لا تُرى، وكل قارئٍ شريك في صناعة الحكاية.
✦ اكتشف قصصنا القصيرة، قراءاتنا النقدية، ومقالاتنا التي تفتح أبواب الأدب العربي والعالمي برؤية معاصرة تتجاوز الحدود.
القصة:
آخر أوتار بيكاسو
الصمت الذي يبتلع الطرقات
كان الصباح بارداً على نحوٍ يذكّر بالمرايا، والضباب يلتف حول جبال “سييرا نيفادا” كأنّها أرواح رسّامين لم يكتمل حلمهم.
في ذلك السكون الرمادي توقّفت شاحنة صغيرة تحمل شعار Museo Nacional de Arte Contemporáneo على جانب الطريق بين مدريد وغرناطة.
لم يكن في المكان سوى الريح، وشاحنة مغلقة الأبواب بإحكام.
حين وصل الضابط المناوب، وجد السائق ممدّداً فوق المقعد الأمامي، عيناه نصف مفتوحتين كمن رأى شيئًا لا يُروى. لم تكن هناك آثار مقاومة، لا دماء، لا كسر في الأبواب.
ومع ذلك... غابت لوحة واحدة من الصناديق المصفوفة بعناية في مؤخرة الشاحنة.
كانت تلك اللوحة هي "حياة ساكنة مع غيتار" لبيكاسو، لوحة صغيرة في حجم كفّين متقابلتين، لكنّها تحمل في طيّاتها ثقل قرنٍ من الجمال والخطيئة معًا.
حين وصلت المحققة إيلينا كورتيس، كان النسيم يداعب أوراق تقرير الشحن الملطّخة بظلّ الغبار، وأحد الضباط قال بصوتٍ خافت:
“كلّ شيء هنا يا سيدتي… إلا بيكاسو.”
رفعت عينيها نحو الجبال الملتفّة بالدخان، وقالت بهدوءٍ أشبه بالاعتراف:
“في عالم الفن، لا شيء يختفي... بل يتخفّى.”
أثر بلا صاحب
كان وجه السائق "ميغيل دوران" شاحباً حين أفاق في المستشفى العسكري.
في تقرير الطب الشرعي: جرعة مخدّر دقيقة في الشريان العنقي، من نوع يُستخدم في التخدير الجراحي.
وفي ذاكرته المهتزّة، ذكر جملة واحدة قبل أن يسقط مجدداً في الصمت:
“كان هناك رجل… بمعطف رمادي، يتحدّث عن الغيتارات القديمة… ثم لا شيء.”
التحقيق الأولي أظهر أن الكاميرات في محطة الوقود توقّفت عن العمل قبل دقائق من الحادثة، كما لو أن أحداً خطّط لتلك الدقائق بعناية شيطانية.
كلّ شيء كان مرتّباً... أكثر مما يجب.
جلست إيلينا على مكتبها في مدريد، تُقلّب صور اللوحة المسروقة:
غيتار على طاولة، بجانبه كوب نبيذ، وكتاب مفتوح على صفحةٍ بلا عنوان.
سألت نفسها بصوتٍ لا يسمعه أحد:
“هل سرق أحدهم الغيتار… أم الصمت الذي حوله؟”
رائحة الورق القديم
دخلت إلى أرشيف المتحف الوطني، حيث تُحفظ سجلات النقل القديمة.
على الورق الأصفر، خطوط دقيقة من أقلام موظفين رحلوا منذ عقود.
كانت الأوراق تشبه الذاكرة نفسها: كثيفة، هشة، مشوبة بالحبر والظلال.
قرأت في أحد السجلات أن اللوحة رُمّمت آخر مرة على يد البروفسور رافاييل سوليس، خبير الترميم المشهور بهوسه بأعمال بيكاسو.
اتّصلت به فورًا.
استقبلها في مكتبه الغارق في الغبار. كان رجلاً نحيفاً، بعينين حادتين تشبهان سكينين صدئتين.
قال مبتسمًا وهو يعبث بريشة تنظيف صغيرة:
“بيكاسو؟ آه، هذا الرجل سرق منّا حتى طرق التفكير في الألوان.”
ثم أضاف كمن يرمي قنبلة:
“لكنّ اللوحة التي تتحدثين عنها… ليست بيكاسو تمامًا.”
نظرت إليه بإصغاءٍ حاد.
“ماذا تعني؟”
ابتسم وقال:
“الأصل لم يُعرض منذ عقود، يا عزيزتي. ما رأيته في المتحف… كان نسخة ترميمية، لا أكثر.”
الحقيقة المائلة
خرجت إيلينا من مكتبه وهي تشعر أنّ الأرض تميد تحتها.
هل يمكن أن تكون اللوحة الأصلية قد سُرقت قبل أشهر… دون أن يعلم أحد؟
لكن إن كان الأمر كذلك، فما الذي اختفى الآن؟
كانت السماء تمطر بخفّة حين وقفت أمام مقرّ “مركز كاخاغرناطة الثقافي”.
هناك التقت كارمن روخاس، أمينة المتحف، امرأة ذات ملامح متعبة كأنها عاشت قرناً واحداً في أسبوع.
قالت بصوتٍ مبحوح:
“كنتُ سأكتشف كلّ شيء قبل العرض بساعات. لكنّهم كانوا يريدون افتتاح المعرض بأيّ ثمن.”
سكتت لحظة ثم همست:
“اللوحة التي كانت لدينا… لم تكن هي. لكنني صمتُّ.”
إيلينا لم تكتب شيئًا في دفترها.
كان الصمت نفسهُ اعترافًا، والاعتراف في عالم الفنِّ لا يُكتب بالحبر بل بالعينين.
المرآة المقلوبة
في تلك الليلة، جلست إيلينا وحدها في شقتها المطلة على مدريد، وعلّقت نسخة مصغّرة من “حياة ساكنة مع غيتار” على الجدار.
أطفأت الأضواء وبقيت تحدّق فيها.
كان الغيتار في اللوحة ينعكس في الكوب، والكتاب في الظلّ، والظلّ في العدم.
تذكّرت والدها، رسّاماً مغموراً مات فقيراً في أزقة برشلونة، وهو يردد دائمًا:
“اللوحات لا تُرسم بالألوان يا إيلينا، بل بالأسرار.”
تلك الليلة فهمت أن ما سُرق لم يكن لوحة… بل سرٌّ دفين داخلها.
خيط الدخان
استيقظت باكراً على مكالمة من وحدة التحليل الجنائي.
قالوا إنهم وجدوا في صندوق الشحن بصمةً جزئية مطابقة لملفّ تاجر الفنّ المعروف راؤول كاساس، الذي طالما لاحقته تهم تجارة الأعمال المزوّرة.
ذهبت إليه في معرضه الفخم على أطراف غرناطة.
كان يجلس تحت لوحة ضخمة لغيتارٍ محترق، وكأنه يعرف تمامًا ما تبحث عنه.
“المحققّة كورتيس... يسعدني أنك مهتمّة بالفن.”
قالها بابتسامةٍ جليدية.
حين سألته عن اللوحة، ضحك وقال:
“في النهاية، يا سيدتي، كلّ ما نملكه هو نسخ عن أشياء ضاعت منذ زمن. حتى الحقيقة نفسها... مزيّفة قليلاً.”
غادرت المكان وهي تشعر أن كلماته تحمل أكثر مما يبدو.
الجرح الذي لا يرى
عادت إلى مدريد، لكنّها لم تنم.
تتبّعت سجلّات الشحن الإلكتروني، فاكتشفت فرقًا غريبًا في الوزن بين ما تمّ تحميله وما وصل إلى الشاحنة:
120 غراماً أقل.
ذلك الفارق الصغير لم يكن خطأً في الوزن… كان رسالة.
بدأت تشعر أن اللوحة التي نُقلت أصلاً لم تكن أصلية، وأن الأصلية اختفت من مخزن مدريد قبل الرحلة بأسابيع.
بمنطقٍ معكوس، فهمت أن اللصّ لم يسرق أثناء الطريق، بل قبل أن تبدأ الرحلة.
كانت السرقة مجرّد ستارٍ على سرقةٍ أقدم.
الكشف
واجهت “كارمن روخاس” مجدداً.
كانت تجلس في قاعة العرض الخاوية، عيناها متعلقتان بالحائط الفارغ الذي كان ينتظر اللوحة.
“أعرف أن اللوحة الأصلية لم تكن في الصناديق، كارمن. من الذي أعاد استنساخها؟”
أغلقت عينيها وقالت بصوتٍ مرتجف:
“رافاييل سوليس. قال إنّها كانت محاولة للترميم... لكنه استبدلها بنسخة مزيفة خوفاً من تلف الأصلية. وبعدها... اختفت النسخة الحقيقية من مخزن مدريد. حاولت إخفاء الأمر حتى لا ينهار المعرض. ثم جاء كاساس، ووعدني بإعادتها مقابل صمتي. صدقته... فسرقها هو أيضاً.”
في تلك اللحظة، فهمت إيلينا أن اللوحة لم تكن سوى مرآةٍ لكلّ من لمسها: تعكس طمعهم، خوفهم، وحبّهم للفنّ الملعون.
الظل الأخير
قادها الخيط الأخير إلى فيلا “كاساس” المهجورة على ساحل مالقة.
كانت الريح تعزف موسيقى خفيّة من شرفاتٍ مهدّمة.
في القبو، وجدت صندوق غيتار قديم، مغطّى بطبقة من الغبار.
فتحته بحذر.
بداخله، ملفوفة بقطعة قماش داكنة، كانت اللوحة الأصلية لبيكاسو.
لكن ما كان مدهشًا هو ما خلفها: لوحة أخرى، لم يُعرف رسامها، تمثّل غيتارًا محترقًا وسط ظلالٍ بشرية مائعة.
على ظهرها توقيع صغير... بالحبر الأسود:
“ر. س.”
هل يمكن أن يكون رافاييل سوليس قد رسمها بنفسه، استنساخًا رمزيًا للّوحة الأصلية؟
هل سرق بيكاسو منه أم سرق هو بيكاسو؟
كانت الحدود بين الأصل والنسخة قد تلاشت تمامًا.
ما لا يُرى
جلست إيلينا أمام البحر، تحمل اللوحة بين يديها، والريح تقلب أطراف القماش.
في الأفق، كانت الشمس تغيب خلف جبالٍ تشبه سطراً لم يُكتب بعد.
تذكّرت كلمات والدها القديمة:
“الحقيقة يا إيلينا، لا تُرسم بالألوان، بل بالظلّ الذي يتركه الضوء بعد أن يرحل.”
نظرت إلى الغيتار المرسوم، فأحسّت كأنّه يهتزّ بخفّة بين أصابعها.
هل كانت تسمع موسيقى حقّاً... أم أن الفنّ بدأ يعزف من تلقاء نفسه؟
وقفت عند الشاطئ تتأمل اللوحة للحظةٍ أخيرة، ثم تركتها للريح والموج.
وحين ابتعدت خطواتٍ قليلة، ظنّت أنها سمعت أوتار غيتارٍ خافتة تتردّد من بعيد،
فابتسمت — لا لأنّها فهمت، بل لأنها أدركت أن اللّغز لم يُخلق ليُحلّ.
وسوم:
القصة البوليسية،ظل الغيتار،السراد الأدبي،أدب الغموض،قصص فلسفية،قصة قصيرة أدبية،قصة بيكاسو،لوحة بيكاسو المفقودة،الأدب العربي الحديث،رمزية الفن،الفن والفلسفة،
غموض فني،قصص بوليسية عربية،اختفاء لوحة فنية،السرد الأدبي المعاصر.
✨ حول القصة:
في «آخر أوتار بيكاسو» تتقاطع ملامح الجريمة مع خيوط الجمال، حين تختفي لوحة بيكاسو الغامضة في رحلةٍ بين مدريد وغرناطة.
عبر سردٍ بوليسيّ رشيق ولغةٍ أدبيةٍ راقية، تغوص القصة في عوالم الفنّ، والوهم، والبحث عن الحقيقة، كاشفةً عن الوجه الخفيّ للجمال حين يتحوّل إلى لغزٍ أبديّ.
«آخر أوتار بيكاسو» ليست مجرّد قصة بوليسية، بل تأمل فلسفي في معنى الفنّ والصدق والظلّ الإنساني، تُقدّمها منصة السراد الأدبي لكل قارئٍ يبحث عن الأدب الذي يُفكَّر فيه بقدر ما يُستمتع به.
✍️ عن الكاتب:
جمال عسكر كاتبٌ يُنصت إلى صمت الجمال قبل أن يكتبه، يجمع في نصوصه بين عمق الفكرة وجمال اللغة، باحثًا في الأدب عن المعنى الكامن خلف الظلّ والكلمة.
في أعماله، يتجاور الواقع بالرمز، والفنّ بالدهشة، ليقدّم سردًا عربيًا معاصرًا يلامس جوهر الإنسان.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق