السراد

في السَرَّاد، للحكاية بقية. تصفح أجمل القصص العربية والروايات المشوقة. منصة أدبية متميزة تجمع بين أصالة اللغة وروعة الخيال. تابع أحدث الإبداعات.

جديد الموقع

Post Top Ad

Your Ad Spot

الأربعاء، 5 نوفمبر 2025

صمت الزجاج

 🪞 صمت الزجاج


الكاتب: جمال عسكر

التصنيف: قصة قصيرة – أدب نفسي معاصر

الوسوم: الحب، الانعكاس، الذات، المرآة، العلاقات، أدب حديث


The Silence of Glass

“When love becomes a mirror — and the reflection begins to break.”

(حين يتحوّل الحب إلى مرآة، ويبدأ الانعكاس في التصدّع.)


وصف مختصر:

قصة عن نديم وياسمين، حيث يتحول الحب إلى مرآة مكسورة تعكس هشاشتنا أكثر مما تُظهر صدق المشاعر. تأمل حديث في الوهم، الذات، والانعكاس.


المقدّمة


في «صمت الزجاج» يقدّم الكاتب نصًا يتأمل هشاشة العلاقة بين الحب وصورة الذات، عبر قصة نديم الذي يرى في ياسمين انعكاسًا مشوَّهًا لروحه.

تسائل القصة، بلغة شعرية وسرد مشدود: هل نحب الشخص، أم نحب أنفسنا من خلاله؟


القصة:


شظية الضوء


لم يكن نديم يصدق أن المرايا يمكن أن تُخفي أكثر مما تُظهر. كان يظنها صادقة دائمًا، حتى التقى ياسمين.


حين رآها أول مرة في ندوة جامعية عن “الوعي بالذات”، بدت له كأنها تنتمي إلى عالم من زجاج صافٍ، لا يمكن كسره ولا النفاذ إليه. تحدثت بثقة، عيناها تلمعان ببرود أنيق. بعد اللقاء، كتب لها رسالة مقتضبة:


“كنتِ تتحدثين كمن يرى نفسه بوضوح. أتمنى أن أتعلم هذا منك.”


ردّت بعد يومين:


“ربما لا تراني كما أنا، بل كما تريد أن تراني.”


منذ تلك الجملة، بدأ كل شيء.


كان يظن أنه اقترب، لكنها كانت تزداد ابتعادًا بلباقة. يبتسم لها، فترد بابتسامة موزونة. يكتب نصًا عنها، فتجيبه بإيموجي واحد. ومع كل تبادل بسيط، كان يشعر أنه يتحدث مع انعكاسه، لا مع امرأة حقيقية.


انعكاس في زجاج بارد


في المساء، كان نديم يجلس أمام هاتفه كمن ينتظر نبضًا من العالم الآخر. يكتب، يحذف، يعيد الصياغة. كل رسالة تمر من خلال مصفاة الخوف: هل ستبدو ثقيلة؟ هل سيقرأها بلامبالاة؟


في كل مرة تردّ فيها بكلمة مقتضبة، كان يشعر أن شيئًا في داخله ينكسر قليلًا. لم يعد يعرف إن كانت هي من تصمت، أم أنه هو الذي صار يملأ الصمت بوهم.


ذات ليلة، قرر أن يواجه مرآته الحقيقية. جلس أمامها طويلًا، وأضاء مصباح المكتب. كان وجهه شاحبًا، كأنه لم ينم منذ أسابيع. سأل صورته:


“هل أحبها فعلًا؟ أم أحب صورتي في عينيها حين تبتسم؟”


الصورة لم تجب. فقط رمش عينه بدا كاهتزاز سطح الماء بعد أن يُلقى فيه حجر صغير.


خيوط الغياب


في اليوم التالي، اتصل بها بحجة مساعدتها في مشروع جامعي. تحدثا أكثر من ساعة، بصوت متردد منها ومتحمس منه. حين أغلقت الخط، شعر بشيء يشبه الدوار: لم يقل أحد منهما شيئًا مهمًا، ومع ذلك شعر أنه خسر شيئًا عميقًا.


كتب في مذكّرته:


“يبدو أنني أطرق بابًا لا يُفتح، لكني لا أستطيع التوقف عن الطرق.”


حين أرسل لها في المساء “اشتقت لصوتك”، ردّت بعد ثلاث ساعات:


“كنت نايمة، معلش.”


لم يكن الغياب هو ما يؤلمه، بل الحضور البارد. ذلك النوع من التواجد الذي يجعلك تشعر أنك زائر في حياة الآخر، تنتظر من يلاحظ وجودك.

تحطّم


مرت ثلاثة أسابيع، وبدأ نديم يرى نفسه بعيونها. كان يتحدث في المرآة فيرى رجلًا ثقيل الظل، متوترًا، مهووسًا بالردود المتأخرة.

تساءل: متى تحوّل من كاتب هادئ إلى تابع قَلِق؟


في إحدى الليالي، أرسل لها رسالة طويلة. لم تكن اعترافًا بقدر ما كانت محاولة للنجاة:


“أحس أن بيني وبينك زجاجًا. أراكِ قريبة وبعيدة في آن. لا أطلب حبًا، فقط صدقًا.”


مرّ الليل دون رد.

وفي الصباح، وجد رسالة قصيرة:


“نديم، أنا مشغولة الفترة دي. خلينا نأجل الكلام.”


قرأ الجملة كمن يقرأ نعيًا. لم يغضب، لم يحزن. فقط شعر أن المرآة التي كانت بينهما تحطمت بهدوء، وأنه يرى نفسه الآن بلا وساطة.


الشظية الأخيرة


في المقهى الذي اعتاد الكتابة فيه، جلس أمام دفتر فارغ. كان الصباح رماديًا، والمدينة تستيقظ ببطء. كتب بخط متردد:


“لم أكن أحبك يا ياسمين، كنت أحب الضوء الذي اعتقدت أنك تعكسينه. كنت أبحث عن نفسي فيك، فوجدت ظلّي فقط.


الحب الحقيقي ليس مرآة نرى فيها وجوهنا، بل نافذة نطلّ منها معًا على العالم.


أنا لست انعكاسًا لأحد بعد الآن.”


أنهى الجملة، وأغلق الدفتر.

أخرج هاتفه وأرسل لها آخر رسالة:


“أتمنى أن تجدي نفسك كما وجدتُ أنا ظلي. لا أريد ردًا.”


ثم وضع الهاتف على الطاولة، ورفع عينيه إلى زجاج المقهى. رأى انعكاسه فيه — مكسورًا، لكنه هذه المرة لم يحاول إصلاحه.

ابتسم لنفسه للمرة الأولى، كمن يرى وجهه الحقيقي بعد زمن طويل من الضباب.


حول القصة


في «صمت الزجاج» ينفتح العالم الداخلي على هشاشته القصوى؛ حيث يتحول الحب إلى تجربة وعي لا إلى علاقة بين شخصين.
النص لا يروي قصة عاطفية تقليدية، بل يعرّي تلك المسافة الدقيقة بين الرغبة في أن نُحَبّ والخوف من أن نُرى على حقيقتنا.
من خلال شخصية نديم، تتكشف مأساة الإنسان المعاصر الذي يبحث عن ذاته في انعكاس الآخر، ليكتشف في النهاية أن الحب لا يُقاس بما نأخذه من المرايا، بل بما نراه من العالم مع من نحب.
قصة تستدعي القارئ للتأمل، لا للبكاء؛ وللصمت أمام الزجاج، لا لكسره.


عن الكاتب


جمال عسكر – كاتب وباحث في الأدب الحديث، يسعى في أعماله إلى استكشاف المساحات الخفية بين الوعي والعاطفة، بين ما يُقال وما يُصمت عنه.
يكتب القصة القصيرة بوصفها مرآةً فكرية للذات الإنسانية في لحظات هشاشتها، حيث تتقاطع الفلسفة مع اللغة، ويتحوّل السرد إلى أداة تأمل في المعنى.
نصوصه تتسم بالعمق النفسي واللغة المكثفة، وتميل إلى تفكيك العلاقات الإنسانية ضمن إطار واقعي مشبع بالرمز والانعكاس الداخلي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot