قلبٌ يغنّي، قلبٌ يجيب
نوفيلا قصيرة بقلم جمال عسكر
مقدمة:
تأتي نوفيلا «قلب يغنّي، قلب يجيب» لتقدّم قصة إنسانية عميقة عن صراع شهرة، وضغط نفسي، وعلاقة معقّدة تجمع بين نجمين عالميين يواجهان الوحدة خلف الأضواء. تتناول الرواية القصيرة الجانب الخفي من حياة الفنانين، وكيف يقودهم النجاح أحياناً إلى الفراغ والخوف قبل أن يقودهم إلى الشفاء والحب.كتبتُ هذه النوفيلا بدافع الرغبة في كشف الحقيقة البشرية وراء الشهرة: ماذا يحدث عندما يسقط القناع؟ كيف يبدو الصوت حين يخرج من قلب متعب؟ وكيف تتحوّل المواجهة إلى علاقة تعيد تشكيل المعنى؟هذه القصة مزيج من الدراما والرومانسية والموسيقى، وتناسب القرّاء الباحثين عن الأعمال القصيرة المؤثرة التي تركز على المشاعر، والبحث عن الذات، والعلاقات العميقة.
حين يتهجّى الصمتُ أسماءنا
لم يكن مارك ريفرز واقفاً على قمة العالم، بل على قمة ضوءٍ يلمعُ حتى يبدو كالعتمة. كانت ناطحات نيويورك تمتد أمامه كأوتار آلة موسيقية عملاقة، لكن لا نغمة تخرج منها لتواسيه. خمسة مليارات دولار حصدتها جولاته، آلاف الحناجر تصرخ باسمه، ملايين الأضواء تحاصر صورته… ومع ذلك، كان يشعر أنه آخر العابرين في ممرّ طويل من الصمت.
منذ رحيل أمّه، صار النجاحُ يلمع مثل سكين، يجرحه كلما اقترب منه. كان يغنّي كي يهرب من نفسه، فيعود بعد كل حفلة منهكاً كأنّه خاض حرباً خاسرة مع قلبه.
وفي الطرف الآخر من العالم، في شقة صغيرة فوق مقهى ببرشلونة، كانت إيلينا سولار تُنصت إلى المطر وهو يطرق نافذتها كأنه قارئ صبور ينتظر أغنيتها التالية. لم تكن تُحصي الأموال ولا عدد التذاكر، كانت تُحصي فقط نبض الكلمات. أربعة مليارات ونصف جنتها جولاتها، لكنها كانت تقول: "النجاح الذي لا يُشبه روحي… خسارة."
كانت تخاف شيئاً لا تقوله لأحد: أن يأتي يوم تغنّي فيه… فلا يرتجف قلب واحد.
انكسار الضوء على وجهين
في حفل الجوائز العالمية، كان الضوءُ سيد المكان. يتزاحم فوق الوجوه، يلمع على الفساتين والبدلات، ويجري على الأرض كأنّه ماء.
دخل مارك أولاً، يمشي بثقة تتقشر عند الحواف، كطلاء فوق معدن بارد. ثم ظهرت إيلينا، بفستانٍ أحمر يشبه صرخة دافئة وسط صقيع القاعة.
حين أعلنوا فوز مارك بجائزة أعلى إيرادات، وقف بين تصفيق يشبه عاصفة من الريح المعدنية. لمّح نظرة إيلينا، نظرة لم تكن تكرهه… بل تكشفه.
وحين صعدت إيلينا لتستلم جائزة أفضل كلمات، شعر مارك بوخزة غريبة، كأن الكلمات التي كتبتها كانت تخاطبه شخصياً.
التقيا في الرواق الخلفي.
قالت بصوت كمن يرمي حجراً في ماء راكد: "مبروك على الأرقام. العظمة أيضاً قد تكون جدولَ حساب."
قال بهدوء مستفَز: "ومبروك على الكلمات. بعضها جميل… لكنه تائه."
لم تكن لحظة عداء. كانت لحظة اعتراف غير معلن بأن كليهما رأى الآخر عارياً من وهج الشهرة.
حين تتكلّم الجراح نيابة عنا
بدأت الحرب ببطء، ثم اتّسعت كدائرة ماء بعد حجر. تصريحات مبطنة، مقابلات لامعة، تلميحات لا تخطئ الهدف.
لكن الحقيقة كانت أن المعركة لم تكن بينهما… بل داخلهما.
مارك كان يحمل على كتفيه ثقل موت أمه، التي لم تره يلمع كما أراد. وكان يشعر أن كل نجاحٍ هو اعتذار متأخر لن يصل إليها.
أما إيلينا، فكانت تخشى الصمت. تخشى أن تفقد صوتها، أو أن تُنصت يوماً لذاتها فلا تجد شيئاً يستحق الغناء.
كانت المعركة بينهما مجرد مرآة… تعكس ما أرادا الهرب منه.
حين يذوب الجليد في حنجرة الأغنية
اضطر الاثنان للتعاون في أغنية خيرية. دخل كل منهما الاستوديو متوتراً، كمن يدخل طقساً مقدساً وهو يحمل خطيئة.
قال المنتج: "أرجوكم… دعوا الموسيقى تعمل."
ثم حدث ما يشبه المعجزة.
حين بدأ مارك الغناء، شعرت إيلينا بأن صوته يحمل وجعاً يشبه حجراً يسقط في بئر قديمة. كان صوته رزیناً، مُثقلاً بما لم يقله.
وحين غنّت إيلينا، شعر مارك بأن صوتها يشقّ صدره كما يفعل الضوء وهو يتسلل إلى غرفة أُغلقت طويلاً.
لم يتبادلا كلمة… لكن شيئاً انكسر في جدارٍ كان يفصل بينهما.
ما يقوله الليل حين نبوح له
بعد التسجيل، بقيا في الاستوديو كأنهما يخافان مغادرة تلك اللحظة.
قالت إيلينا: "هل كل هذا الألم… لك؟"
تنفّس مارك بعمق، كمن يسحب ذاكرة كاملة إلى صدره.
"أمي… رحلت قبل أن تصفق لي مرة واحدة. لم ترَ أي شيء حلمت أن أقدّمه لها."
جلست قربه، وقالت بصوت يشبه لمسة: "وأنا… أخاف أن أصير مجرد صدى. أخاف أن أفقد نفسي قبل أن أفقد صوتي."
في تلك اللحظة، شعر كلاهما بأن الفن ليس خشبة مسرح… بل طاولة اعتراف.
سقوط الضوء على الأرض
انهار مارك في حفل بطوكيو. سقط كمن يسقط من سماء لا تسعه.
انتشرت الأخبار كالنار، وبدأت عناوين الصحف تصرخ. لكنها لم تَهُم إيلينا. كانت في باريس حين سمعت، فتركت فستان الحفل على الأرض، وركضت نحو المطار.
حين دخلت غرفته، كان شاحباً، لكنه ابتسم ساخطاً: "فزتِ أخيراً… أنا محطم."
قالت: "لا… أنا خائفة."
فهزّ رأسه، وعرف أن شيئاً أكبر من العداء وُلد.
حدائق صغيرة تنبت في الصمت
أمضت أسبوعاً بقربه. تحدّثا عن الطفولة، عن الذنوب الصغيرة، عن لماذا يخافان من الضوء، ولماذا يعشقانه أيضاً.
كانا يجلسان أحياناً بلا كلام، يسمعان أصوات المدينة من خلف الزجاج، كأن كل ضوء فيها يروي حكاية.
في إحدى الليالي قال مارك: "أشعر أن صوتك… يسمع ما لا يسمعه أحد."
أجابت: "وأشعر أن حزنك… يكتب أغنياتي من جديد."
لم يقولا إنهما يحبان بعضهما. لكن الحب كان هناك، يمشي بينهما على رؤوس أصابعه.
جولة تُشبه صلاة
عندما تعافى مارك، قررا الخروج في جولة مشتركة.
كانت الحفلات أهدأ، أبسط، أشبه بصلوات تُقال أمام جمهور كبير. كانا يغنيان كمن يمسك بيد الآخر في الظلام.
اختلفا كثيراً، وارتفعت الأصوات أحياناً، لكنه كان اختلافاً يشبه طرقاً على بابٍ يُراد له أن يُفتح.
وللمرة الأولى، تعلم مارك معنى أن يغني لأجل أحد غير الجمهور.
حين يعود الماضي كظل طويل
ظهرت صور قديمة لمارك في الصحف. صور لسنوات الضياع. انهالت التعليقات، وتكسّرت ثقته.
واجهته إيلينا والجرح يلمع في صوتها: "قلت إنك انتهيت من هذا… لماذا لم تخبرني؟"
قال وهو يختنق: "لأنني كنت أخاف أن ترَيَّني… قبل أن أفهم نفسي."
رأت دموعه، وعرفت أن الماضي ليس خيانة… بل ندبة.
صوتان… وقلبٌ واحد ينبض
في لندن، وقف مارك أمام بحر من الضوء وقال: "هذه الجولة لم تغيّر موسيقانا… بل أعادت تشكيل قلبي. والسبب… امرأة أعادتني إلى نفسي."
ثم جثا على ركبته أمام إيلينا، لا أمام الجمهور.
"هل تكونين صوتي… حين يخذلني صوتي؟"
بكت إيلينا كما تبكي أوتارٌ انقطعت ثم عادت للنبض.
قالت: "نعم… لأنك أول من سمع صمتي."
غنيا معاً أغنية وُلدت من وجعيهما… وتحولت إلى وعد.
ما يقوله الصمت حين نصدّق أنفسنا
بعد الحفل، وقفا خلف الستار، الضوء العالق على وجهيهما يشبه جناحين.
قالت إيلينا: "لم أتخيل أن الرجل الذي كرهته… سيعيد لي صوتي."
قال مارك مبتسماً: "ولم أتخيل أن المرأة التي حاربتها… ستكون وطني."
وهكذا تعلّما أنَّ الحب ليس أغنية… بل صمتٌ نسمح للآخر أن يسمعه معنا.
النهاية
خاتمة نوفيلا «قلب يغنّي، قلب يجيب» – للسراد الأدبي
بهذه النوفيلا، يقدّم جمال عسكر تجربة سردية تمزج بين الشعرية والدراما النفسية، وتكشف الجانب الإنساني الخفي خلف عالم الموسيقى والشهرة. «قلب يغنّي، قلب يجيب» ليست مجرد قصة حب، بل رحلة بحث عن الذات، وعن الصوت الداخلي الذي يواجه الخوف والوحدة والضياع قبل أن يجد صداه في الآخر.
تأتي هذه القصة ضمن سلسلة القصص الطويلة المنشورة على منصتنا السراد الأدبي، حيث يحرص الموقع على تقديم أعمال أدبية عربية معاصرة تتميز بالعمق الفني واللغة الراقية والبُعد النفسي. وتُعد هذه النوفيلا إحدى الأعمال التي تستكشف العلاقة بين الفن والإنسان، وتضع الضوء على المعارك الصامتة التي يخوضها المبدعون خلف الأضواء.
إن نشر هذا العمل على السراد الأدبي يأتي تماشياً مع رؤية المنصة في تعزيز الأدب العربي الحديث، وتقديم نصوص تتناول القضايا الإنسانية بلغة جديدة وتناول فني مختلف. وتؤكد تجربة جمال عسكر في هذه النوفيلا أهمية السرد القصصي القادر على لمس القارئ، وإعادة تعريف مفهوم القصص الطويلة في زمن الكتابة السريعة.
لمن يبحث عن نوفيلا درامية رومانسية، وعن قصة تجمع بين الموسيقى والصراع النفسي والشفاء الداخلي، فإن «قلب يغنّي، قلب يجيب» تقدّم رحلة صادقة تستحق القراءة، وتُعد إضافة قيّمة لمكتبة السراد الأدبي ولإبداع المؤلف جمال عسكر.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق