السراد

في السَرَّاد، للحكاية بقية. تصفح أجمل القصص العربية والروايات المشوقة. منصة أدبية متميزة تجمع بين أصالة اللغة وروعة الخيال. تابع أحدث الإبداعات.

جديد الموقع

Post Top Ad

Your Ad Spot

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2025

اعترافات على حافة الرفض

 اعترافات على حافة الرفض


قصة قصيرة بقلم جمال عسكر

🌿 مقدمة لقصة "اعترافات على حافة الرفض" – مدونة السَرَّاد


في مدونة السَرَّاد، نقدم لك قصة قصيرة نفسية تأملية تحمل عنوان "اعترافات على حافة الرفض" – عمل أدبي عميق يستكشف الجانب الخفي من النفس البشرية، والخوف من الرفض العاطفي، والرغبة الدفينة في الحب والقبول.

من خلال البطلة جودي، المهندسة التي تبدو قوية من الخارج لكنها تخفي خلف نجاحها قلقًا وجوديًا وجروح الطفولة، تنسج القصة رحلة شفاءٍ روحي توازن بين الألم والأمل.


تجمع هذه القصة بين الأسلوب الأدبي الشاعري وعمق التحليل النفسي، لتُعيد تعريف معنى الضعف الإنساني والاحتياج للمحبة.

هي ليست مجرد حكاية عن علاقة بين رجل وامرأة، بل مرآةٌ لكل روح تخاف أن تُرى على حقيقتها.

عبر اليوميات الصوتية والحوارات الداخلية، تكشف "اعترافات على حافة الرفض" أن الاعتراف بالمشاعر ليس ضعفًا، بل أسمى أشكال القوة.


اقرأ القصة كاملة على مدونة السَرَّاد، واكتشف عالماً من القصص الأدبية القصيرة التي تمزج بين الأدب النفسي العربي والتأمل الذاتي.

إذا كنت من عشاق القصص الوجدانية والروايات التي تلامس العمق الإنساني، فهذه القصة ستأخذك إلى حافةٍ جديدة من الفهم والبوح والشفاء.

 


القصة:

أول صوت في التسجيل يقول:

"مرحبًا… أنا جودي.

مهندسة ديكور، أُتقن لعبة التناسق… وأخفق في ترتيب قلبي."

يخرج الصوت من الهاتف كأنّه اعترافٌ سرّي لا يجب أن يسمعه أحد. كانت جودي تتحدث إلى الفراغ كمن يرسل رسالة إلى البحر، دون أن تتوقع عودة الزجاجة.

في النهار، كانت امرأةً تعرف كيف تُحكم خصلات شعرها وتغلق زرّ قميصها الأخير وتبتسم في الاجتماعات بابتسامةٍ محسوبة، لا تظهر منها سوى نصف الدفء.

وفي الليل، كانت تتقشر مثل جدار قديم، يظهر تحته اللون الحقيقي — هشّ، باهت، لكن صادق.

لم تكن تكره الناس، بل تخافهم.

تخاف أن يلمس أحدهم ذلك الجزء منها الذي لم يلتئم قط.

في طفولتها، كانت أمها تكرر جملًا تلتصق بالذاكرة مثل الغراء:

"المشاعر ضعف."

"البكاء لا يليق بالذكيّين."

"الاحتياج عبء، يا جودي، الناس تهرب من المحتاجين."

فكبرت جودي وهي تتقن شيئًا واحدًا: أن تبدو بخير دائمًا.

 

كانت تعمل في شركة تصميم داخلي حديثة في القاهرة الجديدة، مكتب زجاجي يطلّ على شوارع صامتة أكثر من اللازم. تصمم المساحات لتبدو مثالية — الأرائك بالزاوية الدقيقة، الإضاءة المخفية، الجدران التي تبتسم باللون البيج الهادئ — لكنها في سرّها كانت تضحك بسخرية: لو كان بإمكاني تصميم قلبي بهذا الاتزان!

ذات مساء، جاء "ياسر" إلى الشركة زبونًا جديدًا. كان يريد تصميم شقته الصغيرة، ولم يبدُ عليه أنه يعرف بالديكور شيئًا.

رجل في أواخر الثلاثينات، صوته منخفض كأنه يخشى أن يوقظ العالم، وابتسامته تخرج ببطء كأنها تتذكّر نفسها بعد غياب.

لم يثر اهتمامها في البداية — كانت معتادة على الرجال الذين يريدون أن يشرحوا لها "كيف تفكّر". لكنه كان مختلفًا، يسأل أكثر مما يتكلم، ويستمع بطريقةٍ تُربك.

حين تنظر إليه لتتأكد من فهمه، تجده لا يشيح ببصره، بل ينتظر منها أن تُكمل — وكأنه يرى خلف الجمل ما لم تقل.

في لقائهما الثاني، وبينما كانا يناقشان لوحة ألوان الحائط، سألته فجأة — على سبيل الاختبار:

"ما رأيك في الناس اللي بتتكلم عن مشاعرها كتير؟"

ابتسم بخفة وقال:

"يمكن هما أشجع منا."

ضحكت ضحكة قصيرة، ضحكة دفاعية، وقالت:

"أو يمكن هم محتاجين يسمعوا نفسهم."

لكنه لم يرد.

وكان صمته أقوى من أي إجابة.

 

في تلك الليلة، فتحت تطبيق التسجيلات من جديد.

قالت بصوتٍ أهدأ هذه المرة:

"أظن أني بدأت أتعلم لغة جديدة.

اسمها الصمت.

ياسر يتكلم بها بطلاقة، وأنا ما زلت أتعلم الحروف الأولى."

ثم توقفت للحظة، وكأنها تستمع لصدى نفسها، وأردفت:

"لكني أخاف. أخاف أن يراني وأنا أحتاج."

أغلقت الهاتف.

حدقت في السقف طويلًا.

كانت تشعر أن شيئًا صغيرًا ينكسر ببطء داخلها، مثل قشرة جليدٍ بدأت تذوب.

 

في الأيام التالية، صارت لقاءاتهما أكثر تكرارًا — في المكتب، في المقاهي الصغيرة، في المعارض الفنية التي كانت تدّعي أنها تحبها. لم تكن تعرف إن كان ياسر صديقًا، أم مرآةً صامتة ترى فيها ملامحها التي كانت تهرب منها.

كانت تتحدث معه عن الكتب، عن التصميم، عن المدن التي تحلم بالسفر إليها.

لكنه، كلما اقترب الحديث من أي منطقة دافئة، كانت تغيّر الاتجاه بخفة المحترفة.

إذا قال "أحيانًا أحس بالوحدة"، ردّت بسرعة: "جربت تعمل إعادة تصميم لغرفتك؟ الألوان ممكن تغيّر الطاقة!"

وحين سألها مرة: "بتخافي من إيه يا جودي؟"

أجابت بضحكةٍ زائفة: "من الزبائن اللي عايزين كل حاجة في يومين!"

لكنه لم يضحك.

فقد كان يرى ما وراء المزاح: الجرح المغلف بورق لامع.

 

في إحدى الأمسيات، جلسا على كورنيش النيل، والهواء يلامس أطراف شعرها.

قالت له فجأة، دون أن تنظر إليه:

"يمكن أكتر حاجة بخافها… الوحدة."

التفت إليها بهدوء وقال:

"يمكن الوحدة هي اللي بتخاف منك، مش العكس."

كانت جملة بسيطة، لكنها سكنت فيها كما تسكن البذرة في التربة.

ضحكت لتخفي الارتباك، لكنها شعرت أن قلبها يُستبدل بآخر.

 

في تلك الليلة، فتحت دفترًا لم تستخدمه منذ الجامعة.

كتبت:

"كلماته كالملح، تلسع لكنها تطهر.

هل أستطيع تحمّل الطهر؟"

ثم بدأت تسجل بصوتٍ أقرب إلى الهمس:

"مرحبًا يا أنا الصغيرة…

أعرف أنكِ تعبتي من الانتظار، من محاولات إرضاء الجميع.

اليوم سمعت رجلًا يقول إن الوحدة تخاف مني. تخيلي؟

ربما لم أكن بحاجة لأحد، بقدر حاجتي لأصدق أني لست عبئًا.

اسمعيني جيدًا:

أنتِ تستحقين الحب، حتى عندما تحتاجين."

 

في الأيام التالية، بدا لها كل شيء مختلفًا.

المدينة لم تتغيّر، لكن الضوء صار أدفأ.

الناس كما هم، لكنها لم تعد تخشاهم بالطريقة نفسها.

كانت تراقب وجوههم في المترو، في المقاهي، في إشارات المرور — تفكر في كمّ الخوف الذي نحمله جميعًا من أن نُرفَض، من أن نظهر ضعفاء.

ذات صباح، نظرت إلى نفسها في المرآة طويلاً.

لم يعجبها انعكاسها — ليس لأنها قبيحة، بل لأنها لا تعرف تلك المرأة التي تحدق فيها.

همست لنفسها:

"منذ متى أصبحتُ أُخفي كل شيء حتى عني؟"

 

في العمل، لاحظ زملاؤها أنها صارت أكثر هدوءًا.

لم تعد تضحك كثيرًا، لكنها صارت تنصت أكثر.

وفي أحد الاجتماعات، حين قال مديرها تعليقًا قاسيًا على مشروعها، اكتفت بالنظر إليه بثبات، ثم أجابت بهدوء:

"يمكن رأيك صح… بس مش هو الحقيقة الوحيدة."

تفاجأ الجميع، حتى هي نفسها.

في تلك اللحظة، أدركت أنها بدأت تستعيد صوتها، لا كأداة دفاع، بل كحقٍّ في الوجود.

 

في نهاية الأسبوع، دعاها ياسر لحضور معرض فني صغير في الزمالك.

لوحات مليئة بالعزلة، وجوه نصفها في الضوء ونصفها في الظل.

وقفا أمام لوحة لامرأة تحمل قفصًا مفتوح الباب.

قال ياسر:

"بتفكرني بيكي."

سألته بابتسامةٍ حذرة:

"ليه؟"

قال:

"لأنك طول الوقت بتقفلي الأبواب، بس المفاتيح دايمًا في إيدك."

صمتت طويلاً.

كانت تريد أن تقول له شيئًا، شيئًا يشبه الشكر أو الخوف أو الاعتراف، لكنها لم تفعل.

كل ما استطاعت قوله كان:

"أنا مش متأكدة إذا كنت عايزة أفتح الباب… ولا أسيبه مفتوح وخلاص."

ضحك وقال:

"أحيانًا الباب المفتوح هو نوع من الشجاعة."

 

في تلك الليلة، عادت إلى بيتها وحدها.

أطفأت الأنوار، وجلست أمام المرآة.

المدينة خلف الزجاج تلمع بضجيجها، وهي أمام الزجاج تحاول أن تلمس وجهها كأنها تكتشفه للمرة الأولى.

قالت لنفسها:

"أعترف… أني أريد من يحمل يدي عندما أكون خائفة.

أعترف أني أتوق لقول ‘أنا بحاجتك’ دون أن أختنق بالخجل.

أعترف أن قلبي ليس حصنًا… بل بيتًا ينتظر ساكنًا يستحق المفتاح."

كانت دموعها تنزل بهدوء، دون نحيب.

دموع ناعمة، تشبه الطهر أكثر من الألم.

وحين انتهت، ابتسمت لنفسها.

لأول مرة، لم تشعر بالخزي من الضعف.

بل بشيء يشبه السلام.

 

💖💖💖


في صباحٍ رماديّ، أفاقت جودي على شعورٍ غريب.

كأنها لم تنم، بل عبرت ليلًا طويلًا داخل رأسها.

رأت في الحلم طفلتها الصغيرة تجلس على أرضٍ من زجاج، تحاول أن تلتقط ظلّ أمها، لكنه ينكسر كلما اقتربت منه.

وحين استيقظت، أحست أن الحلم لم ينتهِ، بل تسرّب إلى يومها.

ارتدت فستانًا رماديًا بسيطًا، وسحبت شعرها للخلف كما تفعل حين تحتاج أن تختبئ.

كان في هاتفها إشعار من ياسر:

"ممكن نتقابل الليلة؟ في حاجة عايز أحكيها."

قرأت الرسالة أكثر من مرة، كأنها تقرأ نبوءة.

ثم تركت الهاتف على الطاولة، وجلست تنظر إليه كمن يراقب قنبلة زمنية.

شيء ما في صدرها كان يخبرها أن الليلة لن تكون عادية.

 

في طريقها إلى المقهى، كانت الشوارع مزدحمة بالضوء، لكن قلبها معتم.

كانت تخاف ألا يجد ياسر الكلمات التي تنتظرها، أو أن يجدها فتخافها.

تذكرت ما قالته في آخر تسجيلاتها:

"ربما الرفض ليس موتًا… لكنه يشبهه في البداية."

حين وصلت، وجدته جالسًا في الزاوية المعتادة.

وجهه هادئ، لكنه بدا وكأنه يحمل قرارًا ثقيلاً.

ابتسمت وجلست، وبدأ الحديث بما لا يعني شيئًا — عن العمل، الطقس، الزحام — لكن الكلمات كانت تمشي على جليدٍ رقيق.

بعد دقائق من الصمت، قال أخيرًا:

"جودي… أنا بحترمك جدًا. يمكن أكتر مما تتخيلي."

ابتسمت بخفة:

"الاحترام بداية جميلة."

قال:

"بس مش دايمًا كفاية."

شعرت أن قلبها يسقط درجة.

حاولت أن تضحك، لكن صوتها خرج مشروخًا:

"يعني إيه؟"

قال:

"يعني… أنا حاسس إن بيننا حاجز، جدار مش شايفه بس حاسس بيه.

كل مرة أحاول أقرب، بتحطي طبقة جديدة من الزجاج."

كانت تنظر إلى يديه وهو يتكلم — يدان هادئتان، نظيفتان، صادقتان — وأرادت فجأة أن تمسكهما وتقول: ابقَ، لكنها لم تفعل.

قالت بهدوءٍ مصطنع:

"أنا بس محتاجة وقت."

رد بصوتٍ يشبه تنهيدة طويلة:

"الوقت مش دايمًا بينقذ، أحيانًا بيبعد."

 

عادت إلى بيتها تلك الليلة محمّلةً بالصمت.

جلست على الأرض، وبدأت تسجل بصوتٍ واهن:

"كان يمكن أن أقول له إني خائفة،

أني لو فتحت الباب ربما لا أستطيع إغلاقه بعدها.

لكني صمتُّ… كالعادة.

هل الخوف من الفقد أسوأ من الفقد نفسه؟"

ثم توقفت، ومسحت دموعها بكمّها، وقالت بنبرةٍ فيها شيء من الغضب:

"أنا تعبت من دوري في هذه المسرحية.

أريد أن أعيش مشاعري دون إذن."

 

في اليوم التالي، ذهبت إلى عملها كمن يمشي على أطراف نفسه.

كانت تبتسم آليًا، تتحدث آليًا، تصمم آليًا.

لكن في داخلها، شيءٌ كان يغلي.

عند الغداء، جلست في شرفة المكتب وحيدة، تراقب الطيور التي تحلّق فوق الأبراج.

فكرت: هل الطيران حرية فعلًا؟ أم مجرد هروبٍ أنيق؟

ثم ضحكت، وقالت في سرّها:

"حتى الحرية تحتاج إلى جناحٍ لا يخاف السقوط."

 

في المساء، فتحت المرآة من جديد.

نظرت إلى وجهها طويلًا، إلى تلك الهالات الصغيرة التي لم تلاحظها من قبل.

وقالت بصوتٍ مسموع:

"أنا أرفض أن أكون جدارًا جميلًا يخفي شقوقه."

ثم أمسكت هاتفها، وبدأت تسجيلًا جديدًا — هذه المرة لم يكن للطفلة القديمة، بل لنفسها التي كبرت.

"مرحبًا يا جودي الجديدة…

هذه الليلة سأعترف دون خوف.

أحبّ، نعم، وأحتاج، نعم، وأرتجف من فكرة الرفض، نعم.

لكني لن أختبئ.

من يريد أن يهرب من احتياجي، فليهرب.

أنا لن أهرب من نفسي بعد الآن."

كانت الكلمات تخرج منها ببطءٍ أولاً، ثم تنفجر دفعة واحدة، كأنها شلال ظلّ محبوسًا لسنوات.

حين انتهت، شعرت بخفةٍ غريبة، كأنها نزعت عن صدرها حجارة قديمة.

 

مرت أيام لم ترَ فيها ياسر.

لم تتصل، ولم يكتب.

لكنها لم تكن في حالة انتظار، بل في حالة شفاء.

كانت تذهب للعمل، تضحك مع زملائها أحيانًا، تخرج وحدها إلى السينما، وتكتب رسائل إلى نفسها لا تُرسلها.

رسالة كتبتها ذات مساء تقول فيها:

"الحنين ليس دعوة للعودة، بل تذكير بأنك كنتِ قادرة على الحب يومًا،

ولا زلتِ قادرة على البدء من جديد."

 

ذات مساءٍ ممطر، وبينما كانت تسير في شارع ضيّق بوسط البلد، سمعت أحدهم ينادي اسمها.

التفتت، فرأته — ياسر، يحمل مظلّة صغيرة ويبتسم بخجل.

قال:

"كنت متأكد إني هقابلك بالصدفة في المطر."

ضحكت، ولم تعرف ماذا تقول.

وقفا سويًا لحظاتٍ قصيرة، والمطر يقرع المظلة بنغمةٍ تشبه دقات القلب.

قال:

"سمعت تسجيلاتك الأخيرة؟"

ثم ابتسم:

"بهزر طبعًا، بس كنت أتمنى أسمعك بتتكلمي كده."

نظرت إليه بثبات وقالت:

"أنا بتكلم كده دلوقتي."

تبادلًا نظراتٍ طويلة، ليست نظرات حبٍّ خالص، بل اعترافٍ صامت بأن ما بينهما كان مدرسة للنضوج.

قال:

"يمكن اللي بينا خلص… ويمكن لسه بيبدأ، مش عارف."

قالت بابتسامةٍ دافئة:

"مش مهم. المهم إني مش بخاف من النهاية."

صمت قليل، ثم مدّ لها المظلة، وقال:

"تعالي نمشي سوا شوية… المطر حلو النهارده."

 

مشيا جنبًا إلى جنب تحت المطر.

لم يتحدثا كثيرًا، فقط خطوات، ونَفَس، وصوتُ ماءٍ يلامس الأرض.

كان المشهد بسيطًا، لكنه يشبه المعجزة بالنسبة إليها — أن تمشي بجوار شخص دون خوفٍ من الانكشاف.

عندما افترقا عند نهاية الشارع، قال لها:

"خلي بالك من نفسك، يا جودي."

قالت بابتسامةٍ صغيرة:

"دلوقتي أنا بعرف أعمل كده."

 

في تلك الليلة، لم تسجّل شيئًا.

لكنها جلست على الشرفة، والمطر يترك آثارَه على الزجاج.

أغلقت عينيها، وتذكّرت وجه أمها وهي تقول:

"المشاعر ضعف."

فضحكت بصوتٍ خافت وقالت:

"لو كانت المشاعر ضعفًا… فكم أنا قويّة."

 

بعد أسابيع، سافرت إلى الإسكندرية في إجازة قصيرة.

استأجرت شقة صغيرة تطلّ على البحر.

كانت تجلس في الصباح على الشرفة، تقرأ بصوتٍ عالٍ من دفترها القديم، وتترك النسيم يحمل كلماتها إلى الموج.

وفي أحد الصباحات، فتحت صفحة جديدة وكتبت:

"الرفض ليس نهاية العالم، بل بدايته أحيانًا.

كنت أخاف أن يقول لي أحدهم: لا أريدك،

فاكتشفت أني كنت أقولها لنفسي منذ سنين.

الآن، أقول لنفسي: أريدكِ.

بكل خوفك، بكل ضعفك، بكل شغفك."

ثم وضعت القلم جانبًا، وأطلقت تنهيدة طويلة، تلك التي لا تأتي إلا بعد الغفران.

 

في المساء، جلست أمام البحر.

الموج يعلو ويهبط مثل نبضٍ ضخم، والسماء تفتح قلبها للظلام.

أخرجت هاتفها، وفتحت التسجيل الصوتي الأخير:

"هذا ليس وداعًا يا ياسر…

هذا سلامي مع نفسي.

كنتَ مرآتي، لا ملاذي.

والآن أستطيع أن أرى وجهي دون خوف."

ثم ضغطت على "حذف التسجيل".

لكنها لم تشعر بالخسارة.

كانت تلك الإشارة الصغيرة تعني الكثير:

أنها لم تعد تحتاج شاهدًا على وجودها، فقد أصبحت هي الشاهد والمُشاهَد.

 

في الصباح التالي، خرجت تتمشى على الشاطئ.

قدماها تغوصان في الرمل الرطب، والشمس تتسلل ببطءٍ من الأفق.

كانت تشعر بخفةٍ تشبه الولادة.

لم يعد بداخلها صوتٌ يلومها، ولا ظلٌّ يلاحقها.

رفعت رأسها نحو السماء وقالت بهدوء:

"لقد خسرت خوفي من الخسارة.

ربما الرفض لم يكن موتًا،

بل دليل أن هذه لم تكن رحلتي."

ثم ضحكت — ضحكة قصيرة، حقيقية، خفيفة كالموجة.

ضحكة امرأة تعلم أخيرًا أن الحبّ لا يُطلب، بل يُعاش.

وأن القلوب، مثل المساحات التي تصممها، لا تكتمل إلا ببعض الفوضى.

الريح مرّت على شعرها، فتركته كما هو — حرًّا، متشابكًا، حيًّا.

ولم تنظر خلفها.

💖💖💖

#قصة_قصيرة #أدب_نفسي #مدونة_السَراد #اعترافات_على_حافة_الرفض #جودي #قصص_حب #الرفض_العاطفي #الذات #الوحدة #قصص_عربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

Your Ad Spot