حساسية البهار
قصة قصيرة بقلم جمال عسكر
"موقع السراد: اقرأ وانشر قصص أدبية عربية. اكتشف قصص قصيرة ونصوص إبداعية من كُتاب في مصر والوطن العربي. بوابتك الأولى للأدب المعاصر.
تمهيد:
القصة:
كانت السعادة صاخبة. أوركسترا عشوائية تعزف ألحانها في كل ركن من أركان البيت الذي بناه أبو كريم طوبةً فوق طوبة. أصوات فناجين القهوة المرة وهي ترتطم بصحونها، همسات النساء الممزوجة بعبق البخور والعطور الفرنسية، وضحكات الرجال العالية التي كانت تهتز معها ثريّات الكريستال المعلقة في السقف. كل شيء كان يضج بالحياة، بالحركة، بالوفرة، احتفاءً بعرس "نور"، بكرته التي كانت حتى الأمس القريب طفلة تخبئ وجهها في ثنايا عباءته.
وسط هذا الموج الصاخب، كان أبو كريم جزيرة من الصمت. يجلس إلى رأس مائدة الغداء العامرة، التي امتدت كأنها وعدٌ برخاءٍ أبديّ. أمامه، تلال من الأرز المبهر تتلألأ حباته الذهبية، وقطع لحم الضأن المحمّر التي يفوح منها شذى الهيل والقرنفل، وأطباق السلطات والمقبلات المرصوفة كالجواهر. كان يرى كل هذا بعينيه، لكنه لا يتذوقه. كانت حواسه كلها معطلة، غارقة في ضجيج داخلي أشد وطأة من كل هذا الفرح الخارجي.
راقب ابن عمه وهو يلقي نكتة سخيفة ضحك لها الجميع. ابتسم أبو كريم ابتسامة آلية، تدربت عليها شفتاه على مدار سنوات من المجاملات الاجتماعية. رأى زوج شقيقته يغرس أسنانه في قطعة لحم ممتلئة، وشعر بغثيان خفيف. كيف يمكنهم أن يأكلوا بهذا الشغف، أن يضحكوا بهذه الخفة، بينما روحه هو معلقة بين السماء والأرض؟ روحه كانت هناك، في غرفة نوم ابنته في نهاية الرواق، حيث تجلس الآن صامتة أمام المرآة، تسمح لامرأة غريبة تدعى "خديجة الماكييرة" بأن ترسم لها وجهاً جديداً، وجهاً لزوجةٍ، لا لابنة.
...يأتيه صوتها من عمق الذاكرة، حاداً، غاضباً، مراهقاً. "أنت لا تفهمني يا أبي! كل صديقاتي سيذهبن!". كان عمرها ستة عشر عاماً، وكانت تتشاجر معه من أجل حضور حفلٍ اعتبره متأخراً وغير لائق. رأى في عينيها يومها تحدياً لم يعهده، شرارة من الإصرار أخافته وأثار إعجابه في آن. أغلق الباب في وجهها، ومضى إلى غرفته وقلبه مثقل. بعد ساعة، تسللت إلى غرفته، ووضعت رأسها على صدره هامسة: "أنا آسفة". لم تذهب إلى الحفل. يومها شعر أنه انتصر، وأنه سيظل دائماً سياجها وحصنها المنيع. كم كان ساذجاً...
شعر بحرقةٍ مفاجئة تتسلل إلى زاوية عينه اليمنى. دمعة واحدة، ثقيلة، حارة، خانته وتدحرجت ببطء على خده الذي حفرت فيه السنون أخاديدها. بحركة أسرع من الفكرة ذاتها، رفع ظهر يده ومسحها، كأنه يطرد حبة عرقٍ تطفلت على جفنه في هذا الخريف البارد. لكن الأوان كان قد فات. عينا زوجته، أم كريم، كانتا عليه، كصقرين حانيين لا يغفلان.
تركت ملعقتها وجلست في مواجهته تماماً، اخترق صمتها ضجيج المائدة. انحنت قليلاً وهمست بصوتٍ لا يصل إلا إليه: "ما بك يا أبو كريم؟"
أشاح بوجهه نحو طبقه، كأنما يبحث فيه عن جواب. قال بصوت أجش: "لا شيء... حساسية."
قطّبت حاجبيها الحادين. "حساسية؟ حساسية لم أعهدها فيك من قبل."
قال وهو يفتت حبة بطاطا بشوكته دون أن يأكلها: "بهار الكبسة... قويٌّ هذه المرة. حارق."
نظرت إليه أم كريم طويلاً، نظرة تحمل ثلاثين عاماً من الحياة المشتركة. نظرة تعرف متى يكون حزنه حقيقياً ومتى يكون ألمه جسدياً. هي تعرف "حساسيته" هذه. إنها حساسية اللحظات الفاصلة، حساسية الفقد التي تصيب الآباء حين تُقطف أزهار بيوتهم لتُزرع في حديقة أخرى. لكنها شعرت هذه المرة أن الأمر أعمق، أن الحساسية ليست من البهار، بل من الحياة نفسها.
كانت العُقدة التي تخنقه ذات خيطين متشابكين. الخيط الأول، هو ذاك الحرير الناعم المؤلم، حنينه لطفلته. كل ركن في هذا البيت يحمل طيفاً لها: أرجوحتها القديمة التي ما زالت معلقة في الحديقة الخلفية، الخدش الصغير على الحائط بجوار الدرج من يوم تعلمت قيادة الدراجة، صوت ضحكتها الذي يبدو أنه ما زال يتردد في الهواء. هذا الخيط كان متوقعاً، حزناً حلواً ومقبولاً.
أما الخيط الثاني، فكان من معدنٍ بارد وصدئ، يلتف حول قلبه ويضغط. كان سراً مظلماً وقلقاً عكراً يفسد طعم الفرح. قبل أسبوعين، في هدوء مكتبه ليلاً، تعثرت قدماه بحقيبة يد جلدية نسيها "عادل" خطيب ابنته. سقطت الحقيبة وانفتحت، وتناثرت محتوياتها على السجاد الفارسي. وبينما كان يجمع البطاقات والأوراق النقدية، تناهت إلى أصابعه ورقة صغيرة مطوية بعناية قلقة. الفضول، ذلك الشيطان الصغير الذي يسكن الرجال الوقورين، دفعه لفتحها. كانت وصفة طبية من عيادة للأمراض النفسية والعصبية. اسم الطبيب، واسم المريض "عادل"، واسم دواء غريب. بضع نقرات على لوحة المفاتيح كشفت له حقيقة أقسى من صفعات القدر: الدواء يُستخدم للسيطرة على نوبات الغضب الحادة واضطراب السيطرة على الانفعالات. كلمات طبية صعبة تخفي خلفها عنفاً محتملاً، وجوهاً أخرى لذلك الشاب الهادئ الخلوق.
... "إنه رجل يعتمد عليه يا نور، هادئ ومحترم." ... كلماته لابنته قبل أشهر، تعود إليه الآن لتجلده بسياط السخرية. هو الذي فحص أصل الشاب وفصله، وسأل عنه في عمله وبين جيرانه، ولم يسمع إلا المديح. كيف فاته هذا؟ كيف انخدع بهذا الهدوء المصطنع؟ هل كان يرى ما يريد أن يراه فقط؟...
والآن، ما العمل؟ هل يقتحم غرفة ابنته، يمزق قناع الفرح الهش، ويصرخ بالحقيقة؟ هل يدمر يومها الذي حلمت به، ويهدم ثقتها بالحب، وبالعالم، وبه هو شخصياً؟ أم يصمت ويراهن على مستقبل ابنته، ويقضي أيامه الباقية يصلي في الخفاء ألا ينفلت المارد من قمقمه يوماً، ألا يرى أثراً لكفٍّ على وجه ابنته؟
صوت ابن عمه انتشله من لجة أفكاره: "هيا يا أبو كريم، حان وقت زفّة العروس. في انتظارك يا كبير."
وقف. شعر أن كل عظامه قد تصلبت. سار عبر الممر، الذي بدا له طويلاً كالعمر كله. مرّ بجوار غرفتها القديمة، ثم غرفة الجلوس حيث كانت تلقي حقيبتها المدرسية بإهمال. كل جدار، كل باب، كل بقعة ضوء، كانت تصرخ بالذكريات. هذا الممر لم يكن مجرد مسافة، بل كان رحلة عبر الزمن، من لحظة ولادتها حتى هذه اللحظة التي سيسلمها فيها إلى المجهول.
وصل إلى باب غرفتها. تردد. ثم طرق ودخل.
كانت هناك. كائنٌ من ضوء وسكون. الفستان الأبيض ينسدل حولها كشلالٍ من حليب النجوم، والمكياج قد رسم حول عينيها خطوطاً داكنة جعلت نظرتها أعمق وأكثر غموضاً. كانت خليطاً مذهلاً من الطفلة التي يعرفها والمرأة التي لا يعرفها. حين رأته، ابتسمت. لكن أبا كريم، بحساسيته التي تجاوزت البهار، رأى ما لم يره الآخرون. رأى خلف تلك الابتسامة ظلاً من تصميمٍ وتحدٍّ، يشبه تماماً نظرتها وهي في السادسة عشرة.
مدّ ذراعه. أمسكت به، أصابعها باردة ولكن قبضتها كانت ثابتة. بينما كانا يسيران عبر الممر المزدحم بالعيون والهمسات، انحنت هي نحو أذنه. رائحة عطرها الجديد اختلطت برائحة طفولتها العالقة في ذاكرته. همست بصوتٍ خفيض، واضح، وقاطع كحد السيف:
"أعرف بشأن الدواء يا أبي. لقد أخبرني بكل شيء قبل أن يتقدم لخطبتي."
تجمد الدم في عروقه. توقف عن السير للحظة، ونظر في وجهها مذهولاً. لم يكن هناك خوف في عينيها. لم يكن هناك تردد. بل كانت هناك دمعة واحدة، عنيدة، تتلألأ في زاوية عينها، كأنها تعكس دمعته هو. ثم أضافت بنبرةٍ حاسمة هادئة، نبرة امرأة تتملك مصيرها:
"وهذا اختياري أنا."
أكمل أبو كريم سيره، لكن خطواته كانت مختلفة. نظر إلى الأمام، إلى "عادل" الذي كان ينتظر بابتسامته الهادئة عند نهاية الممر. لم تعد الابتسامة تبدو له قناعاً، بل بدت اعترافاً صامتاً، وعهداً. لم يعد الأمر قراره، ولم تكن معركته. لقد كبرت طفلته حقاً، ليس بالمكياج والفستان، بل بالقدرة على النظر في عيني الخطر واختياره عن وعي ومحبة.
وصل إليه. وضع يد ابنته في يده. نظر في عيني الشاب، فرأى فيهما للمرة الأولى، ليس مرضاً خفياً، بل رجلاً يناضل. أزاح ثقلاً هائلاً عن كاهله، ليحل محله ثقلٌ آخر، أشد نُبلاً وهدوءًا: ثقل الثقة.
فسلّمها، شريكاً صامتاً في قدرٍ اختارته هي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق